الأدوار التربويَّة للمجتمع المدني .. قراءة في الواقع والأفق المنتظر

  • يمرُّ المجتمع المدني في وقتنا الراهن كغيره من المجالات المهتمَّة بالإنسان بأزمة خانقة، جعلت الفاعلين فيه يدقّون ناقوس الخطر حول الوضعيّة المزرية التي بات يعيشها هذا القطاع، فمع التغيّرات المتسارعة التي عرفها العالم، من تطوّر تكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعيّ وحالة الفيضان التواصلي الذي تشهده الكرة الأرضيَّة، وتحدّي الإرهاب الذي أصبح يفرض نفسه على الجميع، باتت الأدوار التقليديَّة للمجتمع المدنيّ متجاوزة إلى حدٍّ كبير، وبرز السؤال هنا، هل يستطيع المجتمع المدنيّ تطوير نفسه لمواكبة التغييرات الهائلة التي تقع من حوله؟ أم أنه سيظلّ يكرِّر الأدوار نفسها التي كان يقوم بها منذ أربعة عقود خلت؟ ممّا سيهدِّد بشكل جدّي وجوده كقوّة أساسيّة لا غنى عنها في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو الأمر الذي إن حصل، سيرفع حجم الخسارة في مجتمعاتنا ويزيد من حالة التيه الأخلاقي والتربوي الذي يعيشه شبابنا إلى درجة سيصعب معها السيطرة على الوضع وإعادة بناء نموذج جديد، لأنَّ عامل الوقت لن يكون حينها في صالحنا، وستكون الصورة عبارة عن انهيارات شاملة في المنظومات المجتمعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة لدول تتلمَّس طريقها من أجل الوصول إلى الحرّيّة والديمقراطيَّة ومجتمعات المعرفة.

والدارس لوضعيَّة المجتمع المدني الراهنة، سيجد أنها تتخبَّط في حالة من التعقيد لم يسبق لها مثيل، ففي بعض الأحيان نجد مؤسّسات المجتمع المدنيّ تشكِّل أدرعًا للأحزاب السياسيَّة، ممَّا يخرجها من دورها المدنيّ إلى خدمة أدوار أخرى سياسيَّة تكون غالبًا في صالح المشتغلين بالسياسة دون بقيَّة الناس الذين لا ينظرون بعين الرضا إلى الكيانات السياسيَّة التي يعتبرونها لم تعد تؤدّي دورها في بناء قواعد سليمة لدولةٍ مدنيَّة يتعايش فيها الجميع، وتسود فيها العدالة الاجتماعيَّة وتعمل على تحقيق متطلّبات الجميع بدون استثناء، وفي أحيان أخرى تعمل منظّمات المجتمع المدنيّ على القيام بمهام الدولة نفسها، وليس لملء الفراغات التي تشهدها مجموعة من القطاعات، فظنَّت الحكومات في كثير من دول الشرق وشمال إفريقيا أنّ المجتمع المدنيّ أصبح من واجبه أن يقوم بتلك الأعمال التي هي من صميم عمل الدولة، وليس منظّمات المجتمع المدنيّ.

إن من بين المجالات المهمّة التي تخلّى عن الاشتغال عليها جزء كبير من منظّمات المجتمع المدنيّ هو المجال التربوي، فقد تقلّصت الأدوار التربويّة التي يقوم بها المجتمع المدني في الآونة الأخيرة، بعد أن كان يعمل بشكل متواصل على تربية الناشئة منذ نعومة أظافرها إلى مرحلة المراهقة وصولا إلى مرحلة الشباب، فمن منّا لا يتذكَّر الصبحيات التربويّة التي تقوم بها الجمعيات المختلفة لصالح أطفال الحي، ومن لم يشارك على الأقل ولو لمرّة واحدة في مخيَّم من المخيمات الربيعيَّة أوالصيفيَّة التي تشرف عليها منظَّمات مدنيَّة كالكشفيَّة وغيرها، ومن منا لا يتذكَّر أسماء دور الشباب التي ساهمت في تأطير الشباب بشكل فعّال، هذه الأشكال التربويَّة ساعدت بشكل كبير جدا في مدّ الطفل والمراهق والشاب بمجموعة من الأخلاق والقيم التي صقلت شخصيته وهيّأته بشكل فعّال للتواصل مع الحياة بشكل أفضل وتحمّل أعبائها، بل والعمل على الإبداع والخلاقيّة مستعملا كل التقنيات والوسائل التي اكتسبها وتعلّمها من منظّمات المجتمع المدني، ممّا جعلنا نقف على نجاحات باهرة لهؤلاء الخريجين الذين تربوا على يد رجال ونساء أكفاء من روّاد العمل المدني، والذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل تربية الناشئة بشكل تطوعي لا يبتغون من ورائه سوى إعداد جيل من الشباب الذين يعرفون التصرّف مع مشاكل الحياة المختلفة.

ولأنَّ العالم الآن يعيش مرحلة جديدة من التطوّر المضطرد والهائل، فإنه وجب على المشتغلين في مجال المجتمع المدني، التفكير بجديَّة في تغيير وتجديد الأفكار المتعلّقة بعمل المجتمع المدني في المجال التربوي، وبعد تجديد الأفكار لزم أيضًا تغيير وسائل العمل وتطويرها بما يتوافق مع المتغيّرات الكبيرة التي تشهدها البيئة والمحيط الحيويّين، فلا جدوى من الإبقاء على الوسائل القديمة وآليات العمل التي أكل عليها الدهر وشرب، في وقت يسير فيه العالم بسرعة فائقة، وتصدر في العالم المتقدِّم آلاف الكتب والمؤلّفات التي تناقش موضوع تغيير أداور المجتمع المدني في الشقّ التربوي، وذلك لرفع مستوى التدخّل في مجالات عمل الفاعلين المدنيّين، ومساعدة الدول عبر تقديم مجموعة من المقترحات التي ستساهم في رفع التحدّيات التربويّة التي أصبحت تفرض نفسها على المنظومة المجتمعيّة بإلحاح، وتفرض تدخّلا عاجلا من أجل المحافظة على المنظومة التربويَّة والأخلاقيَّة عبر طرق خلّاقة وإبداعيَّة.

لقد أصبح لزامًا على المشتغلين في مجال المجتمع المدني، العمل من خلال أيام دراسيّة أو نقاشات مفتوحة أو دورات تكوينيّة أو غيرها من الوسائل من أجل وضع خطط جديدة ومتجدِّدة من أجل تقديم مقترحات لإعادة الاعتبار للمنظومة التربويَّة ودور المجتمع المدني في ذلك، وأيضا تطوير وسائل العمل التي ستدفع بالمجتمع المدني إلى تقلّد دور أكبر في العمليَّة التربويّة سواء من خلال تشكيل قوّة اقتراحيّة عمليّة تساعد الدول على التأسيس لمنظومات تربويّة جديدة، وتأخذ بعين الاعتبار التطوّر الهائل الذي يشهده العالم والانفجار الكوني الذي تعرفه الأنترنت من خلال ملايين الحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي التي يعد الشباب أكبر فئة مستعملة لها، كما أنهم قطب الرحى في العمليّة التربويّة بأكملها، ولعل من الأدوار المهمّة جدًّا التي يجب على المجتمع المدني والمشتغلين فيه التصدّي لها تربويًّا، العمل على رفع مستوى الوعي لدى الشباب عبر تدريبهم على مواجهة الأفكار المتطرّفة التي تعصف الآن بعدد كبير من شباب المنطقة، وتؤدّي إلى الدمار الشخصي والمجتمعي، وذلك عبر نشر ثقافة تنويريّة تجعلهم يرسّخون في أذهانهم ثقافة التسامح وقبول الآخر ونبذ كل أشكال العنف والتطرّف، وما يزيد من إلحاحيّة هذا التدخّل المدني في هذا المجال هو استنفاد الدول لكل المقاربات الأمنيّة في مواجهة هذا الفيروس القاتل الذي يكتوي بناره المسلمون قبل غيرهم من أتباع الديانات الأخرى.

يلزم الفاعل المدني في المنطقة العربيّة إذن، أن يتحلَّى بالجرأة اللازمة من أجل تغيير جلده وأفكاره القديمة، وأن يدفع إلى التأسيس لعقليّة جديدة تؤمن بالإبداع وتجعل العلم مرجعيّة أساسيّة لها، فلا يمكن أن نبتكر وسائل تربويّة جديدة للمجتمع المدني إلا بالاعتماد على العلم ولا شيء غير العلم، مع الاستنارة دوما بقراءة الواقع والاستفادة من تجارب الآخرين في الدول المتقدّمة، والذين حقّقوا مكاسب كبيرة وغيّروا جذريًّا أدوار المجتمع المدني إلى الأفضل، والتي أصبحت تخلق بيئات جديدة للناشئة تساعدهم على إبراز مهاراتهم وصقلها، عبر صناعة شخصيَّة منتجة وفكر مبدع، مع الحرص دائما على بناء منظومة أخلاقيّة تحافظ على القيم الجماعيّة من الاندثار، كما أن الفاعلين المدنيّين مطالبين أكثر من أي وقت مضى إلى العمل على نقل مهارات حقيقيّة للشباب والأطفال، تنمّي  فيهم روح الاستقلاليّة والتعلّم الذاتي وبناء شخصياتهم بطرق سليمة.

في الأخير لا يمكن لأجهزة الدولة وحدها، أو وزارة التربية في كل بلد، أن تحل معضلة التربية، بل تبقى هذه مسؤوليّة الجميع، ومن أبرز المسؤولين الذين يجب أن يكون لهم دور كبير في ذلك، الفاعلون المدنيّون ومنظّمات المجتمع المدني، لأن المنظومة التربويّة محتاجة لكل الجهود من أجل أن تكون مرنة وتتغيّر بطريقة سريعة تتماشى مع التطوّر الهائل الذي يشهده العالم من حولنا، وتُجدّد وسائلها وآليات عملها حتى تؤدّي رسالتها على أفضل وجه.