- أ.د.علي أسعد وطفة
“بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوَّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوَّل إلى آلة…”
إيريك فروم
يواجه الإنسان المعاصر اليوم إيقاعات فائقة التسارع لصدمة معرفيَّة تهزّ كيان الوجود الإنساني برمته. وتأخذ هذه الصدمة المعرفيَّة طابع الاستمراريَّة والديمومة تحت تأثير أمواج متدفِّقة من الاندفاعات المعلوماتيَّة التي تهاجم العقل الإنساني وتقهره. وفي وصف هذه الثورة المعلوماتيَّة يقول الاقتصادي الكبير كينيث بولدنج: ” لقد ولدت في منتصف التاريخ البشري لأن ما حدث مذ ولدت حتى الآن يعادل تقريبا كل ما حدث قبل أن أولد“([1]). وعلى هذا المنوال يقول البيولوجي الشهير جوليان هكسلي بأن ” إيقاع التطوُّر المعرفي والتكنولوجي أسرع اليوم 100.000 مرَّة مما كان عليه في العصور السابقة”([2]).
أما توفلر فيذهب في كتابه صدمة المستقبل إلى وصف هذه الثورة قائلا بأن ” أن 90% ممَّن أنجبت البشريَّة من العلماء يعيشون الآن في المرحلة الراهنة ” ([3]). وإذا كان قد وقع في يد ماركس يوما بأن العمل يطوّر الإنسان وينمّيه، فإنه كان قد أيقن أيضا بأن إبداعات العمل الإنساني قوَّة يمكنها أن تستلب البشر وتدفع بهم إلى دائرة القهر وزنزانات والاغتراب ([4]). وعلى أساس هذه الصورة تنتصب اليوم إبداعات الإنسان المعرفيَّة والتكنولوجيَّة في صورة تدفّق معلوماتي يبدِّد إمكانيَّة العقل ويتداعى له الوجدان. ومثل هذه الحالة ليست غريبة بالنسبة لهيغل الذي قضى، منذ أمدٍ بعيد، بأنَّ الاغتراب هو الحالة التي تتحوَّل فيها إبداعات الإنسان إلى أشياء تتحدّاه وتهدِّد وجوده مع أنها تجليات حقيقة للجوهر الإنساني أي عقل الإنسان وضميره [5].
فمع تطور الثورات المعلوماتيَّة والتكنولوجيَّة المتدفِّقة، من ثورة الفاكس، والشيفرات الوراثيَّة، إلى ثورة المنيتيل والحاسوب والأنترنيت، وثورة الفضاء والجينات، وأخيرا ثورة المعلومات نفسها في مجال الشبكات والأقراص والصور، يجد إنسان اليوم نفسه في حصار وجودي لا حدود له. ويتمثَّل هذا الحصار في تداعي مقدرة الإنسان المبدع نفسه عن اللحاق بتدفق إنتاجه المعرفي والعلمي، وعن تنامي إحساسه الشامل بأسطورة ضعفه الشامل أمام هذا الإخطبوط المعرفي الذي لا تعرف له حدود أو قرار([6]).
وقد يقول قائل في معرض الاستغراب كيف يمكن للمدّ المعلوماتي أن يضع الإنسان في دائرة الاغتراب؟ ما للإنسان وثورة المعلومات؟ ألا يستطيع الإنسان أن ينفلت من عقال هذه الثورة ويمضي في حياته بعيدا حياته عن دوائر الاغتراب والاستلاب؟ وفي هذا السياق يتوجَّب علينا أن نقول بأن الإنسان مكره اليوم على أن يخوض في هذا العالم لأن حاجات الوجود أصبحت اليوم حاجات معرفيَّة وبالتالي فإنَّ هذه الحاجات تتنامى مع تنامي وتعاظم هذه الثورات المعرفيَّة المتقادمة.
وهذا يعني أيضا أن التكيّف مع هذه الثورة المعلوماتيَّة أصبح اليوم شرطا ضروريا للوجود. وهذا يعني أيضا بأن من لا يستطيع أن يتكيَّف تغمره أمواج هذه الثورات ويعيش في ظلمات الاغتراب. إذ لا يمكن لإنسان اليوم أن يعيش من غير ثقافة تكنولوجيَّة متطورة في أدنى صور الحياة اليوميَّة ومتطلّباتها، فهو يحتاج إلى استخدام التكنولوجيا المتطورة ولا سيما الحاسوب اليوم في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكنات وجوده: في البنك والشارع والسينما والمنازل وفي داخل السيارات وفي أروقة الأحياء ومفازات الصحراء، ومن لا يتقن هذه التكنولوجيا بما تنطوي عليه من معلوماتيَّة يعيش في هذا العالم غريبا عن معطياته وعن سمات عصره، وهنا تكمن صورة من صور أزمة الاغتراب.
وإذا كان الاغتراب في عرف إريك فروم هو الحالة التي تتحوَّل فيها عطاءات الإنسان إلى أصنام للعبادة وإلى أوثان يسجد لها حيث تشكِّل الوثنيَّة هنا جوهر كل اغتراب([7]). فإن واحدا من وجه الاغتراب المعلوماتيَّة تكمن في استغراق الإنسان الشامل وذوبانه المستمرّ في بوتقة النزعة المعلوماتيَّة، فهناك أجيال من الشباب والعلماء الذين يعيشون بصورة شموليَّة في أعماق هذه الثورة في حالة استغراق كاملة بعيدا عن كل مظاهر الحياة الإنسانيَّة الطبيعيَّة.
ويكمن أحد وجوه الاغتراب المعلومات اليوم في عدم قدرة الإنسان على متابعة التغيرات التي تحدث في أي جانب، أو أي ميدان من ميادين المعرفة، ولا سيما هذه التي تتعلَّق بمجال المعلومات والأنفورماتيك. فهناك دفق ثورة علميَّة صامتة تتحرَّك في العمق وتجتاح كل إمكانيات وحدود التصوّر.
وتتبدَّى للعيان ظاهرة التسارع والتقادم والزوال بوصفها المفاهيم الأساسيَّة لحالة اغتراب الإنسان في عالم تفوق فيه سرعة التغيّر ووتائره بحيث تصبح كل الأشياء في هذا العالم قديمة متقادمة متسارعة وكل شيء يختفي في رمال متحركة، ومن يتابع ما يحدث في عالم الحاسوب اليوم هو برهان قطعي على سمات التقادم والزوال في هذا العالم الذي يومض تغيرا ويتوهج تبدلا. وكان الأحداث المعرفيَّة تتجاوز حدود وسرعة شريط سينمائي متعجِّل يسابق ومضه ومض العيون الناظرة. والإنسان في كل يوم يفتح عينيه يجد نفسه في الماضي وهو يلهث من أجل أن يحافظ على علّة وجوده في ظلّ استمراريَّة الزمن.
إنَّ إنسان اليوم يعش في زمن واحد متجانس هو الماضي لأن الأحداث العلميَّة والمعرفيَّة تتجدَّد في كل يوم ولحظة وثانية على نحوٍ يؤدّي فيه هذا الجديد إلى إزالة ما هو قائم بسرعة غريبة ([8]). وهذا يعني بأن الإنسان يعيش حالة غربة وينهض في زمن غير الزمن الذي وجد فيه وتلك هي خاصَّة الاغتراب المعرفي والمعلوماتي في عالم اليوم. ويضاف إلى ذلك أن الإنسان لا يستطيع حتى أن يدرك حدود الزمن بمعنى أنه لا يستطيع أن يعرف جملة العطاءات العلميَّة المتوافرة في مجال علمي واحد محدود([9]). وهنا يترتَّب على المرء الباحث أن يقف ليبحث في مسألة العلاقة بين التعليم والمعلوماتيَّة والاغتراب وفي مسألة تغاير النظام الإدراكي تحت تأثير موجة المعلوماتيَّة المتجدِّدة.
في إطار أسلوب يغلب عليه طابع الإثارة يعلن الكاتب الكنـدي ماك لوهان الحرب على نظام التعليم القائم، الذي أصبـح برأيـه، من مخلفات عصر وسائل الإعلام المرئيَّة والموسوعة. وأطروحات الكاتب لا تخفي على العارفين في مجال أشكال المعرفـة الإلكترونيَّة والتلفزيونيَّة والحاسوبيَّة التـي تتميز بالغنى فيما يتعلَّق بفعالية المشاركة على حدِّ تعبيره.
إنَّ معرفة العالم وإدراكه بصورة كليَّة وشموليَّة كمـا يـرى فـي واقع الحال يؤدِّي إلى صراع بيـن الأجيال الشـابة وبين ذويهـم الـذين يعيشون في سجن حضارة الكتابة ذات المنظور الخطّي التحليلي، ويضاف إلى ذلك كله أن التخصّص المنمط الذي تعزِّزه المدرسـة والمعرفة الجزئيَّة التي تنشرها هذه المدرسة، التي تبعد من حلقاتها عليا ثلاثة أرباع الشريحة الطلابيَّة، كل ذلك يـبرِّر اليـوم وجـود نظام التعليم القائم على حدّ ما يذهب إليه ماك لوهان.[10] ولكن ألا يجب أن نقبل اليوم بفكرة قوامها أن الأطفال يتعلّمون ركاما من الأشياء بشكلٍ عفـوي دون جـهد يذكـر والمطلوب منهم بكل بساطة أن يفتحوا أجفانهم فقط. ومن خلال دمج هذه المعرفة عن طريق التغذية الراجعـة، يمكـن للأطفال اختبـار معارفهم بالتجربة والبحث. ويستطيع الكبار اليوم الاستفادة مـن طاقـة مبدعـة رائعـة وذلـك عندمـا يحـقِّقون التـوافق بيـن عالم أطفال التكنولوجيا مع عالم رجال تعلَّموا الكتابة فقط اسـتنادا إلى اخـتراع غوتنبرغ المسمَّى كونيَّة غوتنبرغ([11]). ويبين لنا ماك لوهان في أعماله الأصليَّة أنَّ أزمـة المدرسـة والشباب تعود إلى عـدم تكـيُّف نمـط الإدراك التقليدي مـع وسـائل الإعـلام المتاحة.
ولكنه يذكر في موضع آخر أن هذه الأزمة أزمـة طبيعيَّة بوصفهـا وليدة نمط جديد من الوعي الشمولي الكوني [12]. وهو وعي سيحتوي عـلى تكنولوجيا الاتّصال الجديدة.. لقد تعرَّضت هذه الجوانب النظريَّة فـي فكر ماك لوهان لجملة من الاختبارات لنقديَّة، ومع ذلك فإنّ أطروحات ماك لوهان كان لها الفضـل الكبـير فـي إيقاظ اطروحات جديدة وفـي تشـكيل منطـق جـديد للتفكـير العلمـي المبدع.
يلاحظ اليوم أنَّ تطوّر التعليـم خـلال الخمسـين عامـا الماضية يميل إلى مركزيَّة التخصُّص حيث يتَّجه كل من الخـبراء للعمل في مجالٍ خاصّ مـن المجـالات العمليَّة المتعـدِّدة أما اليوم وعلى خلاف المرحلة الماضية يبدو الأمر اليوم مختلفا جدا.
إذ لم تعد مشكلة التخصّص تطرح نفسها كأداة وحيدة وجوهريَّة بالنسبة للعمليَّة المعرفيَّة. إذ يبدو اليوم أن الوسيلة الأفضل لمعرفة عميقة وأصيلة تكون في عمليَّة الرؤيَّة الشموليَّة لنتائج مختلف العلوم سواء كان ذلك فـي علـم الفيزيـاء أو فـي الأنتروبولوجيا أو في أي مجال علمي آخر([13]). وعندمـا يحـاول المـرء اليوم أن يدرس شيئا ما فإنه معني منذ البداية بتجاوز المجال الخاصّ بالشيء موضوع الدراسة. فعلى سبيل المثال يمكن القـول إنّ كثـيرا من الاكتشافات الجديدة في مجال الفيزيـاء قـد تحـقَّقت بفضـل نتائج أخرى تعود إلى مجالات أخرى غير علم الفيزياء.
يلاحظ اليوم في إطار الشروط الحاليَّة لتطوّر الإلكترونيّات أن البيئة الإنسانيَّة قد بدأت تتحوّل بشكل تدريجي متزايد إلى طبيعـة صناعيَّة وذلك من خلال المعلوماتيَّة. فوجود القنبلـة النوويَّة يعـود اليوم، على سبيل المثال، إلى التفكير المعلومـاتي الخـالص، وهـي على المستوى المادّي لا تـزن إلا بضـع غرامـات، ولكـن قـدرة هـذه القنبلة وعلاقاتها بالإنسانيَّة تكمن في الـدورة الإعلاميَّة والمعلوماتيَّة لقدرة هذه المادة التدميريَّة. وهنا يمثِّل الجانب المعلوماتي جوهر القدرة والقوَّة الحقيقيَّة للعصـر الـذي نعيش فيه ([14]). لقد أصبح تحويل المعلومـات المهمَّـة الأساسيَّة التـي تشغل الإنسانيَّة اليوم فيما كان أسلافنا، قبل ما يزيد عن خمسـين عامـا، يبذلون جهودهم بصعوبة كبـير لنقـل نتـائجهم الصناعيَّة وأدويتهم الماديَّة خارج الحدود.
لقـد أحدثت الثورة التكنولوجيَّة الجديدة ثورة كوبرنيكيَّة في مجال القيـم والمفـاهيم والعقـائد وأنماط السلوك عند البشر. وإزاء هذا الاندفـاع الحضـاري المـذهل جـنّد العلماء والمفكرون طاقاتهم العلميَّة والفكريَّة، منذ ثمانينات هذا القرن، لدراسة أثر ووظيفة الإخطبوط التكنولوجـي الـذي يهدِّد القيم الإنسانيَّة في جوانبها الخلاقة ولا سيما فـي مجال العلاقات الإنسانيَّة. ويتمثل الإخطبوط الإعلامي في منظومة من المخترعـات دائمـة التطـور والتـي تتجسَّـد فـي الحاسوب، والتلكس، والفيديـو، والكـوابل الأرضيَّة والفضائيَّة، والأقمار الاصطناعيَّة، والهاتف “المنتيل” Minitel والتليتكس، والفيديوتكس، والفاكس.. وتكـمن السـمة العبقريَّة لهـذه التكنولوجيا الاتِّصاليَّة الجديدة في جوانبهـا الاتصاليَّة التفاعليَّة وهي بذلك بمثابة ثورة متقدِّمة بالقياس إلى الاتّصـال وحـيد الاتّجـاه الـذي يتمثَّـل في وسائل الإعلام التقليديَّة كالتلفزيون أو الراديو أو الصحافة [15].
وفي الوقت نفسه يلاحظ اليوم أن مسـتوى هـذه المعلومـات يتنامى باستمرار وبوتيرة عالية، وأن نسـبة المعرفـة الضروريَّة لممارســة النشاطات العاديَّة قد شهد تطورا مذهلا وبطريقة مخيفة، وتأسيسا على ذلك بدأ الطلب على التعليم ينطوي على قيمة بالغة الأهميَّة والخطورة وغـدت ميادينه مترامية الأطراف. ويعبِّر عن هذه الأهميَّة الكبيرة للتعليم والمعلوماتيَّة اليوم ما يشهده البحث والتعليم العالي من نمو وتطوّر ذا طابع أسطوري، وهذا التطوّر يؤخذ على أنه أمر طبيعي في عـالم رجـال الأعمال والإدارة والتكنولوجيا فـي العصر الراهن.
ويلاحظ اليوم أنَّ نفقات التعليـم العالي في مجال إدارة الأعمال والجيش تفوق عشرة أضعاف ما ينفق في مجال الحياة الاجتماعيَّة بكاملها. ولا يوجد وراء ذلـك أيَّة اعتبـارات مثاليَّة أو هدف ثقافي وكل ما هنالك هو الاحتياجات اليوميَّة الضاغطة.
تجدر الإشارة إلى جملـة مـن الصعوبـات التي تواجه الحياة الاجتماعيَّة المعاصرة برمتها، وتتبدَّى إحدى كبريات هـذه الصعوبات في أهميَّة تثوير التعليم الابتدائي وما قبل الجامعي ليواكب القدرة الهائلة للتعليم العالي وليعبِّر عن احتياجاته، وبعبـارة أخـرى، سـيتوجَّب علينـا أن نبرمج الأنظمة التعليميَّة الأساسيَّة ونوجّهها نحو تفجير الطاقـات الإبداعيَّة والاكتشـاف حيث يجب أن تكون هذه المعرفة تحصيلا عفويا في إطار شروط المعلوماتيَّة الجديدة التي تأخذ طابعا إلكترونيا.
ويتوجَّب علينا أن ندرك اليوم أنّ التعليـم يتـمّ خـارج جـدران الصفوف المدرسيَّة وأن الطفل يكسب في كل دقيقة عشرة أضعاف ما يمكن له أن يتعلّمه داخل المدرسة. فالمعرفـة التـي يكتسـبها الطفـل خـارج قاعات الصفوف المدرسيَّة يتجاوز إلى حدّ كبير قيمـة المعرفـة التـي يكتسبها داخل جدران المدرسة. وأن الفارق بين المعرفة خارج إطار المدرسة وداخلها يميل إلى الاتِّساع بشكل متصاعد. وفي المسـتقبل لـن تستطيع المدرسة أن تقوم بتعليم الأطفال المـواد التطبيقيَّة التـي يمكـن أن يتعلَّمها الأطفال من خلال الأقراص والشـرائط المغناطيسـيَّة أو مـن خلال الفيديو وآلات العرض المتنوّعة. وعندما تسـتطيع العـائلات المتوسطة والفقيرة أن تمتلك جهاز فيديو وكمبيوتر وفاكس – وهذا ما سيحدث في القريب العـاجل- فإن ثورة متعاظمة ستحدث في مجال التعليم وستكون هذه الثورة أشـبه بـالثورة التي أحدثها الكتاب المطبوع. ففي الوقت الذي كانت فيه المعرفة مرهونة بمدى الوصول إلى المخطوطـات كان اكتسـابها يتمـيَّز بالصعوبة. ولكن عمليّات اكتساب هذه المعرفة تحوّلت جذريا، وذلـك بعد ظهور الكتاب المطبـوع وأصبحـت تتمـيَّز بالسـرعة حيث هي في متنـاول الجميع أيضا. وهذا ما سيحدث مع انتشار الفيديو والفاكس والأنترنيت والكمبيوتر والقنوات الفضائيَّة والشفرة المعلوماتيَّة، حيث سيكون في قدرة كل فرد من أفراد المجتمع أن يعيش مــع الجراحــين والفلاســفة والبيولوجــيين والفيزيائيين والشعراء الكبار ومع أهمّ مصادر المعلومات.
وفي مواجهة هذه الصورة الجديدة للحضارة الإنسانيَّة ظهرت مقولات نظريَّة تطالب المدرسة بتوظيف أدوات الثورة العلميَّة المتاحة من أنترنيت وفاكس وكمبيوتر وفيديو وتلفزيون تعليمي وقنوات مشفرة من أجل مواكبة التحوّلات العميقة والشاملة التي تهاجم العقل الإنساني المعاصر.
وعلى الرغم من أهميَّة هذه المقولات ومشروعيتها فإنّه توظيف هذه الإمكانيات محكوم عليه منذ البداية، وذلك لأن إمكانيَّة استخدام التكنولوجيا المعرفيَّة وتوظيفها فـي المدرسة مرهونة بإعادة بناء النظام التعليمـي بشـكل كـلّي وعلى نحو شمولي، ذلـك لأن إدخال الإلكترونيّات في التعليم أمر غير ممكـن فـي إطار الشـروط الحاليَّة التي تتَّصف بخاصة التجرؤ وعدم قدرة المدرسة على التكيُّف مع معطيات التكامل المعرفي لتكنولوجيا المعرفة والاتّصال.
إنّ التدفُّق الهائل في للمعلومات ونموّها الشامل في إطار المجـتمع يمكنه أن يمكن العدد الأكبر من الأطفال من الوصول إلى أعلى مستوى من الثقافة والمعرفة والمعلوماتيَّة. فالبيئة التي تحيط بوجود الإنسان المعاصر تتطلَّب وصول الأجيال إلى تمثّل ذروة المعرفة وتقتضي أيضا وبحكم الضرورة أن يصل عدد كبير من الأطفال إلى إمكانيَّة إجـراء البحوث في مستوياتها العليا وأن يكون لديهم منهج العمل الجمـاعي المشترك.
ولقد أعلن روبرت اوبنهـاير منـذ سـنوات أنَّ هـؤلاء الأطفال الذين يلعبون في الشارع قادرون على حلِّ المسـائل الفيزيائيَّة الأكثر تعقيدا وذلك لأنهم يملكون نموذجا رفيعا للإدراك فقده الراشدون منذ من طويل. وأن هذه القدرة الإدراكيَّة عند الطفل والتي تتيح لهم القدرة على المشاركة في أعلى مسـتويات البحث، تبدأ بالظهور فقط دون أن توظف فعليا. وقد اعترف أدموند بيكون على سبيل المثال، وهو رئيس لجنة التمـوين فـي فيلادلفيـا علنا بأنه قد طلب مساعدة أطفال المدارس الابتدائيَّة فـي إيجاد الحلول لمسائل التموين الكبرى التي واجهته، حيث كلف يعض الباحثين بتدريس الأطفال المخطّطات الموضوعيَّة من أجل المدينة وطلـب إليهم مناقشة هذه المخطّطات فيما بينهم ومـع آبـائهم وجـيرانهم ،ومن أجل ذلـك وضعهـم فـي صـورة الجـوانب الفيزيائيَّة الجغرافيَّة للمدينة. وفي النهاية عـاد الأطفال وهـم يحـملون بعـض الحـلول المتميِّزة حول جملة المسائل المطروحة.
لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفيَّة هائلة ويجسِّدون قـدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. وبطريقة أخرى يمكـن القـول، وذلـك على المستوى التربوي أن نظام التخصّص والتصنيف الدقيق ليس له غاية واقعيـا إذا كانت الحياة في المجـتمع المعاصر تتمـيَّز بتطوّر وغزارة التدفّق الثقافي ولا سيما أهميَّة المعلومـات التكامليَّة التي يقدّمها الراديـو والتليفزيـون والسينما والحاسوب والأنترنيت ونظام الشبكات. والإصرار على أهميَّة التعليم المدرسي بوضعه الحالي يعدّ بمثابة فكرة ساذجة وغريبة تسـعى إلى تـوظيف المدرسـة كأداة لحرمان نصف أو ثلاثة أرباع أبناء المجـتمع مـن الثقافـة العليا.
تكمن المهمة الأساسيَّة للتعليم في مجـتمع مـا في رفـع مسـتوى أعضائه إلى مستوى القدرة على استخدام التكنولوجيا المتوافرة فيه وتوظيفها، وإذا لم النظام التعليمي أداء مهمته هذه فإن المجتمع يتعرض للسقوط والانهيار.
إن إحدى العوامل الأساسيَّة لوجود التعليم العام تاريخيا يعود ببساطة إلى أن رجال الصناعة الكبار جعلوا من سوق العمـل مكانـا يفيـض بالنـاس الذين يعرفون القراءة والكتابة. وهذا ينسحب على ما يتعلّق بحاجات الجـيش الـذي يتطلَّـب أناسـا غـير أميّين قادرين على تقديم الفائدة فـي مجـال الخدمـة العسـكريَّة. فالتخلّف يشير بصورة أساسيَّة إلى المجتمعات التي يكون فيها الجانب الأكبر من السكّان غير متعلّم والذي لا يستطيع أن يمتص الإنتاج الصنـاعي ولا يمكن أن يخـضع لإرادة رجال الصناعة والمال في البلدان المنتجة.
ومنذ اللحظة التي يتمكّن فيها السكّان من القـراءة والكتابـة يصبح في متناول أيدي رجال الصناعة والمال التعويل على تعليم السكان الذي يتيح لهم أن يفعلوا ما يريدون. فالشعب المتعلّم لا يستطيع أن يهـرب مـن سـيطرة القنبلة النوويَّة التي تكون نتاجـا للمعلوماتيَّة الخالصـة التـي أصبحت بمثابة البيئة التي تحيط بنـا والتـي يمكـن لهـا أن تشـمل بآثارها كافة البلدان والحضارات على وجـه الشـمول. وفـي إطار عالمنا الذي تشكِّل المعرفة فيه البيئة النموذجيَّة التي تحـيط بنـا كما هو حال التعليم الابتدائي لن يكون كافيا على وجـه الإطلاق، حيث يتوجَّب علينا أن نبني معرفة عليا على كافة المستويات وفـي كـل المجـالات. وهـذا يتطلَّـب منـا أن نعلــم وننشــر المعرفــة الإلكترونيَّة والسمعيَّة – البصريَّة لكي يستطيع الناس الحياة والعمـل. ومن هذا المنطلق فإنَّ الأتمتة ستعمل على قهر التخصُّص المحدود([16]). فالآلة أقدر اليوم على تخزين المعطيات وأجراء العمليات الحسابيَّة بالانطلاق من هذه المعلومات وكل ذلك سـيكون لـه أثـر كبـير وعميق على النظام التعليمي.
خاتمة
يحكم اليوم على مجتمع ما بأنه ما زال يعيـش في القرن التاسع عشر ويفقد روابطه الحيويَّة مع القرن العشرين إذا كان نظامه التعليمـي لـم يتطوّر مع إيقاعات الزمن، حيث يخضع فيه الطلاب والناشئة متخصّص مجزأ.
فالشباب الذين يأتون من وسط تسود فيه الإلكترونيات ووسائل التكنولوجيا المعقَّدة يواجهون في إطار المدرسة بيئة التخصُّص الجزئي التي تركِّز على أسـاس الحـصص والساعات والبرامج المدرسيَّة. وبالتالي فإن هذا الشكل من التعليم لا يتوافق أبدا مع معطيات الوسـط الإلكتروني الـذين يعيشون فيه. إنَّ اسـتحالة تحقيق التوازن بين الحاجات والبني الحقيقيَّة لوسط تربوي ما شيء لا يمكن أن يظهر إلا في مراحل التغيّرات السريعة. ونحن اليوم نعيش في عصر التغيرات العاصفة حيث يشكِّل التغـيّر نفسه الشكل الوحيد للثبات الذي نعرفـه ([17]). فإننـا نقيـم علاقاتنـا وفقـا لمحاور محدودة في إطار هذا التغيّر المتسارع.
يجب علينـا ن نـأخذ بعيـن الاعتبـار أن آثـار التكنولوجيـا الإلكترونيَّة تدفعنا إلى تجاوز المناهج القديمة للتنظيـم الاجتماعي الذي يقوم عـلى عمليَّة الفصـل والتجزئة، فنحـن ننتقـل إلى عصـر العجلات ونغادر عصر الدائرة. فالعجلة تنقل بكل بسـاطة الأشياء والمعطيات ولكن الدائرة تقيم علاقات بين المعطيات فحسب. وهذا يعنـي أننا ننتقل من عصر التحويل البسيط إلى عصر ردود الأفعال والذي يمثِّل عصر المشاركة نفسه.
يجب على التعليم أن ينتقل مـن مسـتوى الـتراكم إلى مسـتوى التجربة أي من التحويل البسيط للمعلومات إلى المعرفة التجريبيَّة ذات الطابع الإبداعي وذات الأبعاد الجديدة للتجربة المعاشة. ويجب على البحث أن يتوجـَّه نحـو أشكال جـديدة مـن التجربـة والكشف عن مبادئ التنظيم الشمولي القابل للتطبيق وليس مـن أجـل الظواهر كغاية في ذاتها. ولنأخذ مثالا عـلى ذلـك إذا شـئت وذلـك فيما يتعلق بعلم نفس الحياة اليوميَّة حيث يلاحظ أن جميع الأطفال يدركون بعض جوانب نظريَّة فرويد بشكل عفوي وطبيعي، ومثـل ذلـك يتعلَّق بمعرفة تجريبيَّة وليس بمعرفة تحويليَّة[18]. ويطلـق عـلى بعـض دوائر هذه المعرفة اليوم معرفة الاكتشـاف وليس بمعرفـة التجـميع الميكانيكي ولا علاقة هناك بيـن هـذا التحـصيل ومسـتوى العمـر، ولا يوجد ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونـوا تجـريبيين منـدفعين ومتحمّسين أو مكتشفين وروّاد في مجـال العلـم والمعرفـة، وتلـك هـي توجيهات المجتمع المعنـي والعـالم الـذي يتجـاوز واقـع الأشكال العتيقة والميكانيكيَّة إلى بني جديدة من التفـاعل الإلكتروني عـن التراكم البسيط للمعطيات إلى مستوى التجريبيَّة البنيويَّة[19].
مراجع المقالة وهوامشها :
[1] آلفين توفلر : صدمة المستقبل : المتغيرات في عالم الغد ، ترجمة محمد علي ناصيف ،ط2 ، الجمعيَّة المصريَّة لنشر المعرفة والثقافة العالميَّة ، القاهرة، 1990. ص 13.
[2] آلفبن توفلر : المرجع السابق ، ص 22.
[3] آلفين توفلر : المرجع السابق ص 27.
[4] السيد علي شتا : نظريَّة الاغتراب من منظور علم الاجتماع ، مؤسسة شباب الجامعة ، الإسكندريَّة ،1993. ص 123- 140.
[5] مجاهد عبد المنعم : الاغتراب في الفلسفة المعاصرة ، سعد الدين للطباعة والنشر ، ط1 ، بيروت ، 1984.
[6] انظر : جوديت لازار : سوسيولوجيا الاتصال الجمـاهيري، ترجمة علي وطفة وهيثم سطايحي ، دار الينـابيع ، دمشق ، 1995.
[7] نبيل رمزي اسكندر الاغتراب وأزمة الإنسان المعاصر، المعرفة الجامعيَّة، 1988.
[8] لقد تلاشت أجيال من البرامج العلميَّة في مجال الأنفورماتيك بسرعة لا تصدق ومن ينظر اليوم إلى عالم الحاسوب يلاحظ بأن الأجهزة التي تباع تصبح قديمة بمعيار الغد.
[9] منذ أكثر من خمسة عشر عاما وأنا استخدم الحاسب الآلي في الطباعة والعمل يوميا ، وحتى الآن لم أستطع أن أبدا ، مع بذل أقصى الجهد، أن أتابع التطورات التي تحدث في منسق الكلمات Win-Word فهناك عدد كبير من الوظائف الجديدة التي تظهر في هذا البرنامج بين عشيَّة وضحاها.
[10] Le Than Khoi : L’éducation et societé , Sorbonne Paris.1991.
[11] آلفين توفلر : صدمة المستقبل ، مرجع سابق ص 31.
[12] Jean- Marie dominique : Enquete sur les Idées contemporaines , Point , Paris, 1981. PP.89-99.
[13] غـي افـانزيني، الجمود والتجديد في التربيَّة المدرسيَّة، ترجمة عبد الله عبد الدائم ، دار العلم للملايين ،بيروت ، 1981.
[14] Judith Lazar : Sociologie de la communication de mass , P.U.F., paris, 1991.
[15] Même source.
[16] Gilbert Durand : Les Grands textes de la sociologie Moderne, 2ED,, Dallos, Paris, 1983.
[17] انظر آلفين توفلر : صدمة المستقبل ، مرجع سابق.
[18]Frank R. Donovan : Education stricte ou éducation liberale “, Ribert laffont , Paris , 1986.
[19] علي وطفة ، تربيه متغيرة لزمن متغير مجلة العربي عدد 433 ، كانون الأول ،ديسـمبر 1994.