حاوره: الأستاذ مولاي محمد اسماعيلي
نستضيف في هذه الزاوية، الأستاذ الدكتور ليث كبة؛ المسؤول السّابق في منظَّمة مانحة، والخبير في المجتمع المدنيّ حصيلة أربعين عامًا من العمل المدنيّ، لنتحاور معه حول دور المجتمع المدنيّ في التعليم.
بدايةً، وأنتَ الخبير في المجتمع المدنيّ دكتور ليث، كيف تقيّم دور المجتمع المدنيّ في العمليّة التعليميّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العقود الأربعة الأخيرة؟
الواقع، أنَّ المجتمع المدنيّ نشأ ظاهرة جديدة في المنطقة العربيَّة خلال الأربعين سنة الماضية، فيما كانت كل النظم القائمة في دول المنطقة العربيّة، تعتمد سياسة تعليم مركزيَّة محدَّدة بنقل المعارف والعلوم تحت إشراف الحكومات. بعض الجامعات-كما كان العراق سابقًا- كانت ذوات مستويات تعليميَّة متقدّمة جدا، وكان التعليم الإعداديّ والثانويّ التأهيليّ قبل دخول الجامعة هائلًا، وكان تصميم الدولة وعملها يناسبه هذا النوع من التعليم، بمعنى أنَّ الخريجين يأتون ضمن مؤسّسات الدولة التعليميّة، كما أنّ أكبر موظّف لهم هي الدولة؛ أي أنَّ الدولة تعلّمهم والدولة تستوظفهم.
حدثت تحوّلات كبيرة في العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة، أهمّها التحوّل الذي حصل في العالم الرقميّ والتواصليّ،وإدخال الحاسبات إلى مفردات الحياة. كثير من القرّاء قد لا يدركون أنَّه قبل أربعين عامًا، لم تكن هناك حاسبات أصلًا. وحتى الإعلام كانَ محدودًا وضيّقًا ومسيَّسًا، والتعليم يكاد يكون جامدًا؛ تعليم القراءة والكتابة ومهارات أوّليَّة جدا في مرحلة الابتدائيّ، وهناك تعليم متقدِّم قليلًا على المستوى العلميّ والأدبيّ في الإعداديّ والثانويّ، ثمَّ التعليم الجامعيّ وهو يقتصر على اختصاصات محدَّدة تعارف عليها سوق العَمَل. العالَم تغيَّر جوهريًّا، والتعليم في المنطقة العربيَّة لَم يواكب هذه التغيّرات. أكثر من ذلك، البيئة الثقافيّة والسياسيَّة تغيَّرت جوهريًّا أيضًا، والجيل الشاب اليوم انفتحَ على عوالم جديدة، ولم يعُد بإمكان الدولة السيطرة على نوافذ الثقافة والتيّارات الوافدة. وبالتالي فإنَّ التعليم بمعنى نقل الثقافة والقيم العامَّة وحتى بمعنى الإعداد المهنيّ تهمَّش دوره، ولم يعد له الدور الناجع في إعداد الشباب للحياة، وفي إعدادهم لسوق العمل، ما تسبَّب بحدوث ثغرات كبيرة جدا لا تزال قائمة إلى الآن.
الحكومات تتخبَّط في كيفيَّة سدّ هذه الثغرات، فتركت فراغًا واسعًا لمبادرات، ومع نموّ المجتمع المدنيّ خلال الأربعة عقود الماضية، وبالتحديد في العشرين سنة الأخيرة، ظهرت مبادرات عديدة من المجتمع المدنيّ، قسم منها معنيّ بسياسات التعليم، قسم منها معنيّ بسدِّ ثغرات لا يوفِّرها التعليم الرسميّ؛ على سبيل المثال؛ كثير من الدول لم يكن لها تعليم مدنيّ أو تعليم يختصّ بالتدريب على مهارات الحياة أو التنمية البشريَّة. هذه ثغرات لا تزال قائمة، يتصدّى لسدّها المجتمع المدنيّ ويلعب دورًا فعّالاً فيها. من زاوية أخرى فإنّ التعليم غير الرسميّ على يد منظّمات طوعيَّة ومدنيَّة متنوّعة تميَّز عن التعليم الصفيّ الرسميّ الذي يعتمد فقط على نقل المعلومة بأنّه يعتمد الطرق التفاعليّة والحديثة في التعليم، مستخدمًا كل ما يمكن أن يحصل عليه من أسواق المعرفة ومن أدوات التعليم التي أصبحت اليوم مفتوحة وميسَّرة.
لم يعد الهيكل التعليميّ- كما ذكرت- حكرًا على الحكومة، وهو الأمر الذي فتحَ أفقًا واسعًا أمام المنظّمات المدنيَّة كي تُساهِم، لكن مهمّتها الرئيسة هي ليست هذا النوع من التعليم، لعلّ مهمّتها الأساسيّة هي في الضغط على المؤسَّسات الحكوميَّة لإحداث تغيّرات حقيقيّة في سياسات التعليم تواكب التحوّلات التي طرأت في العالم، وتؤهِّل الخريجين لسوق العمل، حيثُ أنَّ جوهر العمليّة التربويَّة هو إعداد جيل مؤهَّل للحياة بكلِّ أبعادها، يعني على مستوى الثقافة والتربية؛ جيل صالح مؤهَّل لمواجهة الحياة، وللدخول إلى أسواق العمل.
قلتَ إنَّ العشرين سنة الأخيرة، عَرفت ظهور مجموعة من المبادرات التعليميّة في المجتمع المدنيّ. برأيك أين نجحت هذهِ المبادرات وأين فشلت، إذا جاز لنا أن نقيّمها الآن بعد مرور زمن على ظهورها؟
سؤالك هذا، يشكّل أيضًا، فرصة لتسليط الضوء على قصّة المجتمع المدنيّ في المنطقة العربيَّة. لعلّه قبل عشرين عامًا، كانت الريادة لمنظّمات المجتمع المدنيّ في المنطقة العربيّة في فلسطين المحتلَّة في الضفّة الغربيّة وغزّة؛ لأنَّ سلطات الاحتلال لم تقدِّم لهم مناهج تعليميَّة، وحتى قبلها لم تكن هناك سلطة فلسطينيَّة فاعلة، فكان هناك فراغ حقيقيّ، ولم يقف أهل فلسطين متفرّجين على هذا المشهد. تصدّوا فكانت المبادرات، خصوصًا على مستوى التعليم المدنيّ وتأهيل الشباب وتوعيتهم. كان للمنظّمات الفلسطينيّة الريادة، وأنا أتذكَّر قبل عشرين عامًا، أي عندما باشرتُ العمل في المؤسَّسة المانحة التي كانت تدعم منظّمات المجتمع المدنيّ، أنَّ ملف المنظّمات الفلسطينيَّة كان لامعًا وله نجوميَّة؛ أدلَّة التربية، مثلًا، كانت تُصنع بأفضل وأجود أنواعها من قبل المنظّمات الفلسطينيَّة.
أيضًا كان هناك جهد كبير في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهليَّة، إذ بادرت منظّمات المجتمع المدنيّ في لبنان إلى إعادة تأهيل مواطنيها الذين أنهكتهم الحرب، وإدخال مفهوم المواطنة ودفعه، وكانت تجربتها أيضًا متميّزة ورائعة. بعد ذلك بدأت مبادرات أخرى على مستوى التربية المدنيَّة. على مستوى سياسات التعليم ظهرت بعض الجمعيّات المتخصِّصة في المغرب ومصر وكانت معنيَّة بمحاولة إدخال مواد التربية المدنيَّة والمواطنة إلى المناهج التعليميّة، واستطاعت بجهودها المشاركة في لجان استشاريّة حكوميّة، عندما أقبلت حكومة المغرب وحكومة مصر حينها على إدخال مواد للتربية المدنيّة إضافة إلى التربية الدينيّة والوطنيَّة. شاركت منظّمات المجتمع المدنيّ، كذلك، في مصر والمغرب والأردن بلجانٍ استشاريَّة حكوميَّة وأرشدتهم إلى أفضل النماذج والممارسات في ذلك.
كانت هذه الأدوار الرائدة التي لعبتها على المستوى الاستشاريّ للحكومات؛ تقديم أدلّة ونماذج للتربية المدنيَّة، بالإضافة إلى إعطاء حصص في بعض المدارس؛ لأنّ المجتمع المدنيّ لا يمتلك قدرات دولة، لذلك كل ما يمكن أن يقدّمه هو نماذج تجريبيَّة على مستوى ضيِّق نسبيًّا.
بطبيعة الحال؛ التعليم المدنيّ تطوّر الآن، وخصوصًا في السنوات الأخيرة مع بروز أنواع جديدة من التعليم الإلكترونيّ والتعليم عن بعد وغيرها. بصفتك خبيرًا في المجتمع المدنيّ، هل تعتقد أنَّ عمليَّة التعليم المدنيّ واكبت هذا التطوّر، أم لا؟
هذه أيضًا نقطة تسجَّل للمجتمع المدنيّ، إذ أنَّهُ قدَّمَ نموذجًا يعتمد على الطرق التفاعليَّة لا التقليديَّة المعمول بها في الجامعات؛ فالجامعات لها اعتبارات أكاديميَّة ومستويات أكاديميَّة معنيَّة بصناعة المعرفة ونقلها وفق معايير أكاديميَّة عالية. في المقابل، التعليم غير الرسميّ المهتمّ بسدِّ الثغرات وتنمية القدرات والمهارات غير معنيّ بمنح الشهادات. هذا التعليم غير الحكوميّ استخدم أُطرًا أخرى؛ أطر الورشات والدورات التفاعليَّة التي تباشر ببناء قدرة الفرد وتقديم المهارة والتقنية اللازمة له لإنجاز عمله. والواقع أنَّ هذا النمط لم يُصنع في المنطقة العربيَّة، فقد ظهر بدايةً في أميركا، ثمّ انتشر وأصبح تجارة رائجة، بعد أن أدركت أغلب الشركات، أنَّ الإعداد الجامعيّ لا يكفي لإنجاح أعمال موظّفيهم أو عمّالهم، وإنّهم يحتاجون باستمرار إلى دورات تكميليَّة، فهي بدأت في الواقع على المستوى الوظيفيّ والصناعيّ في أميركا، واستهدفت الخريجين الذين يحتاجون إلى أدوات ومهارات وقدرات وتقنيات إضافيّة تعينهم في حياتهم العمليَّة، ثمّ قام المجتمع المدنيّ باستخدام تقنياتها بجدارة على عدّة أصعدة، فمثلًا، صحيح أنَّ منظّمات المجتمع المدنيّ لم تتمكّن من التأثير على البرامج الحكوميَّة، لكنّها قامت في المقابل بتدريب كوادر من المعلّمين على هذه التقنية الجديدة، وأصبح الجميع يعمل بها، بل إنّ الأساتذة الجامعيّين الذين لا يمتلكون هذه الأساليب، باتوا يشعرون بأنّهم متخلّفون، وأنّ الطلّاب لا يتابعون برامجهم بانتباهٍ عالٍ. كان الأستاذ الجامعيّ أو المدرّس في المرحلة الثانويَّة سابقًا يكتفي بنقل المعلومة، وكأنَّ مهمّته تبدأ وتنتهي بدخوله الصف وخروجه منه ووضع المعلومة على السبّورة. كل هذا تغيّر الآن، لأنّهم صاروا معنيّين بالدرجة الأساسيّة بالتفاعل مع الطلّاب.
دكتور ليث، قبل أن نتحدّث عن محاور أخرى، دعنا نقلب السؤال: ما هي الأشياء التي قدّمها التعليم في العشرين سنة الأخيرة لتطوير أداء المجتمع المدنيّ؟ بعبارة أخرى، ما هي الأشياء التي ساعدت، برأيك، في تقوية أدوار المجتمع المدنيّ، هل هي موجودة أصلًا، أم لا؟
يؤسفني القول إنّ مادة التربية المدنيَّة لم تدخل بجدّيّة بعد ضمن مناهج التعليم في الدول العربيَّة. أُدخِلَت، ربما، مادة لحقوق الإنسان لزيادة التوعية، لكن لم تصبح التربية المدنيَّة بالمستوى المطلوب،كما هو الحال في أميركا على سبيل المثال؛ أميركا البلد الذي أكثر من 10% من مواطنيه لم يولدوا فيه، ويستقبل أعدادًا كبيرة من المهاجرين، فكيف يمكن دمج كل هذه الثقافات المختلفة من العالم في منطقةٍ واحدة؟ سلاحهم التعليم؛ التربية المدنيَّة في أميركا تبدأ من المرحلة الابتدائيَّة وتستمرّ إلى الثانويَّة،وهي تعطى بتدرّج؛ أي كلما ازدادت القدرات الذهنيَّة للطالب بزيادة عمره يُتَعَمّق بتدريسها، حتى يصير الفرد قادرًا على فهم كيفيّة عمل ماكينة الدولة، وكيف تعمل البلديّة، وكيف يتدخَّل إذا أراد تغيير سياسةٍ ما، ويفهم دور الأحزاب والنقابات، ومن يمثِّل الحقوق، وما هو الدستور؛ هذه المعارف تجعل من الفرد مواطنًا صالحًا يشارك بجمعيّات مدنيّة.
هذا بالكامل –كما قلت- غائب عن منطقتنا، فالحياة المدنيَّة عندنا تقتصر على من يمتلك وعيًا سياسيًّا في أغلب الأحيان.الحياة السياسيَّة صعبة، الحياة المدنيّة أسهل وأقرب؛ فكثير من الناس يقولون إنَّ الحياة السياسيَّة عمليَّة مرهقة ومنهِكة ومرتفعة الخطورة، وفيها اديولوجيّات، لذا يفضّلون المساهمة في الحياة العامّة بخدمة بلدانهم من خلال جمعيّات مدنيَّة.
لا تزال هناك فجوة كبيرة ما بين التعليم واحتياجات السوق، ما بين واقع المجتمع المدنيّ والمواطنة، ولهذا وجد هذا الجهد الطيِّب الذي تقوم به مجلّة التنويريّ، وهذه التغطية والتركيز وتسليط الأضواء على الفجوات الموجودة لدينا بهذه المنظومة أو العمليَّة التعليميَّة.
كلامك أعلاه يحيلنا إلى سؤالٍ آخر: إذن، ما هو المطلوب؟ هل من وصفةٍ لإنشاء مادَّة تربية مدنيَّة حقيقيَّة في المنطقة العربيَّة، وإذا ما تمَّت ما هي النتائج التي من الممكن أن نصل إليها إذا اعتمدنا هذه المادّة اعتمادًا جدّيًّا؟
بما أنّني أتحدّث من خلفيّة من يعرف المجتمع المدنيّ وقدراته، ولأنّ الحديث يركِّز على منظّمات المجتمع المدنيّ، أظن أنّه بإمكان الجمعيّات المعنيَّة بالسياسات التعليميّة في المنطقة وبالواقع التعليميّ الهشّ في كثيرٍ من البلدان، السيّء في بلدانٍ أخرى أن تتحرّك. يؤسفني أن أقول، مثلًا، إنَّ واقع التعليم في العراق الآن، ليس سيّئًا فقط، بل يحزنني أن أشاهد المستوى المرتفع من العنف داخل المدارس حتى الابتدائيّة منها، وهو الأمر الذي يؤدّي إلى خلق جيل عنيف. هذا كلّه مثار قلق حقيقيّ للمجتمع، ومنظّمات المجتمع المدنيّ يجب أن تتحرَّك باتّجاه رصد البيئة التعليميَّة حتى تتأكَّد من عدم وجود مخالفات.
بإمكان منظّمات المجتمع المدنيّ المعنيَّة في البلدان العربيَّة أن تعمل مجتمعةً؛ لأنَّ المشكلات متشابهة تقريبًا، والتحدّيات متشابهة، والثقافة متشابهة، لذا بإمكانها أن تعمل على مستوى إقليميّ، ليس من باب مناصرة بعضها البعض، لكن على أن تضع تحليلًا وخارطة طريق لكيفيّة التأثير والضغط باتّجاه تغيير السياسات التعليميَّة على عدّة أصعدة، مثلًا؛ يمكن الضغط لإدخال موادّ مهارات الحياة والنجاح في كل جزء من المادّة التعليميَّة في المدارس، لأنّنا صرنا ندرك -حتى في الدول العربيَّة- أنَّ الضغط النفسيّ الهائل الذي يتعرض له الطلّاب لا يؤدّي إلى حالات انتحار وحالات عنف فقط، بل إنَّه يستنزف الطالب كليًّا. لا يكفي الإعداد العلميّ والتقنيّ لنجاح الفرد في الحياة، يحتاج مهارات حياة. الآن صارت الأمم المتّحدة تدعم هذا الاتّجاه، وهو اتّجاه جديد بإمكان منظّمات المجتمع المدنيّ أن تتبنّى إدخال موادّ مهارات الحياة والنجاح، والتنمية البشريّة، إضافة إلى موادّ التربية المدنيّة، ومواد حقوق الإنسان في التعليم الثانويّ مثلًا. هذه كلّها مشروعات يمكن العمل عليها، وهي غير سياسيّة ولا تهدّد أي أحد. الدولة الكسولة أو المتجاهلة لحقوق الناس تحتاج إلى ضغط من قبل منظّمات المجتمع المدنيّ حتّى تحسّن من أدائها، ويمكن لهذه المنظّمات أن تقدّم بدائل وخرائط ونماذج يسهل امتصاصها من قبل الوزارات المعنيَّة.
ننتقل إلى محور مهمّ آخر يتعلّق بالتعليم الإلكترونيّ، إذ باتَ منَ المَلاحَظ أنَّ التطوّر التكنولوجيّ المتصاعِد ساعد منظّمات المجتمع المدنيّ على ابتكار مجموعة مشروعات مرتبطة بالتعليم الإلكترونيّ، كيف تنظر كخبير في المجتمع المدنيّ إلى هذهِ التجارب؟
التحوّل الذي طرأ في عالم الاتّصالات وخصوصًا في الإنتاج الرقميّ، هو ثورة لا تزال مستمرّة حتّى الآن، ولم تتجلَّ كل أبعادها بعد، لكن الاتّجاه العام يسير نحو تعليم سيعتمد على منصّات التعليم الرقميّ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا. وهنا لا أقصد فقط التعليم المفتوح بمعنى أن تدخل على صفٍّ جامعيّ في هارفارد الأمريكيّة عن طريق منصّات التعليم الجامعيّ المفتوح (أونلاين)، هذا الأسلوب مفيد، لكنّه قليل الجدوى مقارنة بما هو قادم. القادم كما أتوقّع ويبدو في الأفق يتعلّق بجهود دائبة وحقيقيَّة لتحويل كلّ الموادّ التعليميّة إلى كبسولات رقميَّة يسهل على الطلّاب فهمها وتناولها أينما كانوا، ثمّ الخضوع للامتحانات عبر منصّات رقميَّة؛ بعبارةٍ أخرى، نحنُ أمام ثورة في التعليم ستهمِّش كثيرًا، أو تسلب التعليم التقليديّ 80% من وظائفه، خصوصًا في المنطقة العربيَّة التي تقتصر وظيفة التعليم فيها على نقل المعلومة، إذ سيردّ الطالب حينها: أنا لا أحتاج تعليمكم الحكوميّ، أستطيع الحصول الآن على المعلومة كاملة (أونلاين) بطريقةٍ افضل وأسهل وأجمل ولا ترهقني. وأنا هنا لا أنفي أهمّيّة التعليم الرسميّ في مساحاتٍ أخرى عديدة تشمل التربية والتثقيف وبناء القدرات، إذ من الصعوبة أن تتحقّق هذه المساحات عن طريق التعليم الرقميّ، قد تتحقّق يومًا ما، لكن ليس في الأفق المنظور.
كل هذا يمنح منظّمات المجتمع المدنيّ فرصة عظيمة، وهي المبادرة- ربما- في هذا الحقل. وأيضًا يفتحُ آفاقًا وأسواقًا جديدة أمام منصّات تعليميَّة للتنافس مع الجامعات الرسميَّة الحكوميّة ضمن أفقٍ حقيقيّ في التعليم، وكما ذكرتُ أنَّ كل هذه المساحات غير حسّاسة وغير مسيّسة لكنّها تعطي دفعة هائلة للمجتمعات.
ما هي الآفاق المستقبليّة؛ أقصد هذا الارتباط بين المؤسَّسة التعليميَّة والمجتمع المدنيّ، هل من قراءةٍ للمستقبل؟
المستقبل في المنطقة العربيَّة يحتاج إلى روّاد. لكن قبل أن أخوض في المستقبل لا بد من الإشارة إلى وجود أربعة فضاءات متمايزة في المنطقة العربيّة؛ أوّلها فضاء انهار في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، ما يضعنا أمام ملايين من الأطفال والطلّاب ممّن فقدوا فرصة حضور المدارس والتعلّم ضمن أجواءٍ طبيعيَّة، كما أنّهم تعرّضوا إلى أجواء حرب ودمار وعنف وعدم استقرار وخوف، الأمر الذي يخلق مشكلة حقيقيَّة في قلب العالم العربيّ تحتاج من يفكِّر فيها، وهي المهمّة الملقاة على عاتق منظّمات مدنيَّة وطوعيَّة أيضًا، فكما قلت سابقًا أنّه يؤسفني أنّ الحكومات مستغرقة- إن بقيت هناك حكومات في هذه البلدان- بهمومٍ أخرى، هذا أوّل فضاء وفيه ملايين الشباب.
الفضاء الثاني في بلدانٍ، يمكن وصفها بأنها على الطرف الآخر من المعادلة؛ بلدان مثل المغرب وتونس فيها درجة عالية من الاستقرار والانفتاح والتراكم والنموّ، كما أنّ مؤسّساتها التعليميَّة تطوّر نفسها لمواكبة السوق، وتحاول مواكبة العالم بتحديث برامجها التعليميَّة، وهذا جهد إيجابيّ كل ما يمكن العمل فيه هو الدفع باتّجاه التعجيل فيه ورعايته.
أمّا الفضاء الثالث فهي دول الخليج، ويحزنني القول إنّها تستضيف أرقى جامعات العالم؛ فهناك حيّ جامعيّ خاصّ يضمّ كبريات الجامعات الأمريكيّة في الإمارات، وحيّ خاصّ يضمّ أهمّ الجامعات في قطر، وكذلك في السعوديّة، وكأنّه لو جئنا بهاته الجامعات وأساتذتها وأنفقنا عليها المال سنشهد عندنا نقلة تعليميَّة! هذا وهم، والواقع أنّ آخر الدراسات تقول إنَّ ما تنفقه هذه الدول على التعليم مرتفع جدًّا،مقارنة، مثلًا، بدولٍ إفريقيَّة فقيرة تنفقُ من نسبة دخلها الوطنيّ أقل بكثير على التعليم، لكنَّ خريجيّها مؤهّلين أكثر للأسواق وللإنتاج وللحياة من هؤلاء الذي تخرّجوا في هذه البلدان. هنا تحدٍّ آخر في هذه الدول.
الفضاء الرابع يشمل الدول التي تعاني من اضطرابات أمنيَّة وتعيش في انغلاقٍ سياسيّ، وتخشى أو لا تريد أصواتًا-حتّى من المجتمع المدنيّ- أن تتدخَّل في السياسات التعليميَّة، رغم وجود عجزٍ حقيقيّ في نظمها التعليميَّة. الأمر الجيِّد في هذه الدول أنّها تحتفظ بمركزيّةٍ عالية، لكن الأمر السيِّء أنّها لم تحدِّث برامجها.
هذه خارطة التحدّيات في المنطقة العربيَّة، ولو كانت هناك شبكة إقليميَّة للمنظّمات المدنيَّة المعنيَّة بسياسات التعليم لرسمَت الخارطة، وبدأت تحرّكاتها نحو إصلاح الواقع التعليميّ في المنطقة.
السؤال الأخير دكتور ليث كبة، ما هي أهمّ التوصيات التي تقترحها لمعالجة قضيّة التعليم والمجتمع المدنيّ؟
إذا أخذنا بعين الاعتبار كل التحدّيات المذكورة، أوّل توصية أو بوصلة نحو المسار هي لنتّجه نحو التعليم الرقميّ لسدِّ الثغرة؛ لأنّ عندنا ثغرة كبيرة قمت بتوضيح أبعادها أعلاه. لن تحلّ مشاكلنا السياسيّة وحدها، ولا قضيّة المهجّرين، ولا الثقافة السائدة؛ لذا فالطريق الوحيد هو عدم انتظار هذه الدول، والتّوجّه نحو اللحاق بالركب الحضاريّ للعالم بالتعليم الرقميّ ونقله إلى المنطقة. هناك جهود طيّبة لبعض المؤسّسات المانحة – بعضها في الخليج أشهرها في الإمارات وقطر- بهذا الاتّجاه ويجب العمل معها، لأنّها مهتمّة بالتعليم ولديها توجّهات حقيقيَّة نحو المعرفة، وهذا أمر جيِّد، فالتوجّه نحو التعليم الرقميّ يجسِّر لنا هذه الثغرة الكبيرة.
التوصية الثانية تتعلّق بتوعية المعنيّين باستراتيجيّة التعليم الحيويّ، بمعنى أنّه لا بدّ من ربط التعليم بحاجات السوق وحاجات الحياة، وعدم الاكتفاء بالتعليم لغرض الشهادة، أو زيادة المعلومات أو مجرّد تداولها؛ يجب أن يرتبط التعليم مباشرة بتمكين الفرد وبناء قدراته على الحياة بكل تحدّياتها وتحدّيات الهويَّة والثقافة، وعلى مواجهة حاجات السوق؛ أي أن يتحوّل الفرد إلى عنصرٍ منتج في هذه الأسواق.
التوصية الثالثة رغم صعوبة تحقيقها، تختصّ باستمرار العمل والجهود نحو التأثير والضغط على سياسات الدول، لأنّ الدولة تملك كل المقدّرات؛ السياسات التعليميَّة والمؤسّسات التعليميّة، ولا يمكن التخلّي عنها أو تجاوزها على المدى البعيد. لكن كما ذكرت في المقترحين الأوّل والثاني، أن لا تنتظروا الدولة، وباشروا بشيء، دون أن تتوقّفوا في المقابل عن استمراريّة العمل مع الدولة لإصلاح السياسات التعليميّة والمؤسّسات وكوادر المعلّمين.