-
محمد الحيان
يمثِّل المجتمع المدني من حيث المبدأ (مثل مفهوم الديموقراطيَّة، الفضاء العام… وغيره) مفاهيم تمَّ إسقاطها داخل الفضاء العربي والإسلامي دون أن يساهم في خلقها، إنضاجها أو حتى تطويرها بعد استيرادها من سياقاتها الأوروبيَّة، المفارقة للسياق العربي حضاريًّا ومعرفيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.
يشير المفكِّر العربي عزمي بشارة في كتابه “المجتمع المدني دراسة نقديَّة” إلى أنَّ المجتمع المدني صيرورة فكريَّة وتاريخيَّة نحو المواطنة والديموقراطيَّة عبر مجموعة من التمفّصلات والتمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة أو بين المجتمع والدولة.
وعليه، فلن يكون همّنا هنا، البحث في مصطلح المجتمع المدني، في تطوّره التاريخي الغربي، أو ككيان قائم بذاته قادر على الاضطلاع بأدواره بغض النظر عن طبيعة المتغيّرات الخارجيَّة والتي تختلف بحسب كل دولة عربيَّة، وكل حقبة زمنيَّة، بقدر ما يهمّنا التأكيد على فكرة أساسيَّة مفادها أن إمكانيَّة قيام المجتمع المدني بأدواره الثقافيَّة والمعرفيَّة دون تحقيق ديمقراطيَّة داخليَّة حقيقيَّة ودون توفر شرط المواطنة الحقَّة، دون ذلك لا يمكن الحديث عن أي مجتمع مدني قوي وقادر على القيام بأدوار تنويريَّة وتعليميَّة.
مشكلة المجتمع المدني في السياق العربي ليست هي البنى التقليديَّة التي لا تزال تحكم علاقات الأفراد فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة، وليست هي انعدام المؤسَّسات الاقتصاديَّة التي تقوم على اقتصاد السوق والإنسان الحرّ، ولكن في طبيعة الأنظمة الشموليَّة الحاكمة، التي تسعى إلى بسط سيطرتها وتحكّمها على جلّ تفاصيل الدولة والمجتمع، الأمر الذي ينتج في النهاية كيانًا شبه مجتمع مدني، لأن تدخُّل الدولة أربك عمليَّة تشكُّل مجتمع مدني قوي، طبعًا مع فروق طفيفة في كل دولة، مع بقاء عدد من القواسم المشتركة بينها.
تتّجه الدولة في التجربة المغربيَّة – على سبيل المثال – إلى قتل الأحزاب السياسيَّة، وإضعاف النقابات المهنيَّة، وبناء العلاقة بين الشعب والسلطة الحاكمة على أساس الولاء المطلق، وليس التعاقد الذي هو محور المواطنة، أي خلق رعايا بدل مواطنين، وهذا النموذج لا يكبح فقط منظّمات ومؤسّسات المجتمع المدني بل يضعف الدولة ذاتها، لأن هذا النهج يخلق طبقتين في الدولة؛ طبقة حاكمة وشعبًا محكومًا، فلا الأحزاب قادرة على القيام بأدوارها التقليديَّة، علمًا أن جزءًا منها أحزاب إداريَّة تفتقد للشرعيَّة والقرار المستقلّ، ولا النقابات المهنيَّة قادرة على رفع صوتها أمام الوضع القائم، ما يعني في النهاية المغامرة بالاستقرار الاجتماعي جملةً وتفصيلًا وليس فقط المجتمع المدني.
ثمَّة سوء فهم جوهري متعلِّق بدور مؤسّسات المجتمع المدني في المساهمة في العمليّة التعليميَّة والتنويريَّة حيث يتمّ حصر هذا الدور بمؤسّسات التعلم النظامي، في حين أن منظّمات المجتمع المدني بمقدورها ذلك عبر خلق مؤسّسات للتعليم على غرار مؤسّسات التعليم النظاميَّة، وكذا إطلاق المبادرات الثقافيَّة التي ترمي رفع مستوى الوعي لدى طبقات اجتماعيَّة مختلفة (مثل ما يعرف بالصالونات الثقافيَّة، المقاهي الأدبيَّة، مبادرات القراءة…) كما لها دور آخر في دعم التعليم النظامي عبر ما يطلق عليه جمعيّات الآباء أو الجمعيّات الأهليّة التي تسهر على سير العمليّة التعليميَّة داخل مؤسّسات التعليم النظامي، لكن يبقى الشرط المحوري لتحقّق ذلك هو مدى قدرتها على التحرّر من توجيه وسطوة السلطة السياسيّة أي أن تملك قرارها المستقلّ وأن تعمل لأجنداتها الخاصَّة.
بالمجمل، فإن تغلغل الدولة بالعالم العربي في كل تفاصيل الحياة اليوميَّة للأفراد، ورغبتها في الهيمنة، تجعل من الصعب الحديث عن مجتمع مدني مستقلّ وقادر على خلق أدوار ثقافيَّة واجتماعيَّة وتنويريَّة، بالرغم من الحاجة الملحّة لها نظرًا لعمليّات التحديث التي تتعرَّض لها الدولة والتغيّرات التي ترافقها ثقافيًّا وقيميًّا، ما يعني أن العمل على تحقيق شرط الديموقراطيَّة الحقَّة مدخل محوري لتأسيس مؤسّسات مجتمع مدني قادرة على أداء أدوارها كاملة.
هناك مهام لا يمكن للدولة أن تقوم بها وحدها ولو وظّفت كل قدراتها الماديّة واللوجستيّة، بل تحتاج لحضور مؤسّسات ومنظّمات المجتمع المدني وأهم هذه الأدوار هي ثقافيّة تربويّة توعويّة بالأساس. ما يكون محصّلته في النهاية ضرورة قبول الدولة إعطاء الشرعيّة والحرّيّة لهذه المؤسّسات أن تعمل وتبادر، أي أن ترفع الدولة يدها قليلًا وتعطي مساحة حرّيّة أكبر للمجتمع، أن تثق في المجتمع لأنه الضامن الحقيقي لأي دولة عند كلّ انتكاسةٍ حقيقيَّة.