*محرز الدريسي
الشكر موصول للفريق الذي وفَّر لنا هذه المنصَّة التي دارت فوقها حوارات شيِّقة جدا. الزملاء الأساتذة الأفاضل كلّهم تناولوا مسألة التنوير من الناحية المعرفيَّة ومن الناحية النظريَّة. أنا سأحدّثكم عن المستوى التطبيقي لهذه العمليَّة التنويريَّة من خلال نموذج التجربة التونسيَّة.
التجربة التونسيَّة كانت تقريبا منذ بداية التسعينيات عندما قام وزير التربية في تونس بعمليَّة إصلاح، وطالت عملية الإصلاحات مادة التربية الإسلاميَّة.
في تلك الفترة كانت مادة التربيَّة الإسلاميَّة مرتبطة بمادة التربية الوطنيَّة، أي أنه كانت تتناول مثلا، تاريخ الرسول عليه السلام، تاريخ الخلافة الإسلاميَّة، تاريخ كل القضايا التي مرّ بها الإسلام، والمشروع الذي انطلق في بداية التسعينيات بسؤال كيف يمكن أن يقع تحديث وتطوير مادة التربيَّة الإسلاميَّة، واستعان بفريق من الإسلاميّين التقدّميّين لإضفاء مسحة جديدة، لكن ما وقع حقيقة أنّه تمَّ إفراغ مادة التربية الإسلاميَّة مسألة العقائد، مسألة التشريعات، والتركيز على تحويلها إلى التفكير الإسلامي، وثقافة الاجتهاد والتجديد.
فكرة الاجتهاد والتجديد قدمّت مخرجات متنوّعة بعد 20 عاما على انطلاقها، لكن المدرسة التونسيَّة أفرزت مجموعة من الملتحقين بشبكات الإرهاب، وبالتالي فمادة التربيَّة الإسلاميَّة في غاية الأهمّيَّة وليست مادة دراسيَّة عاديَّة، هي ليست الفيزياء، ولا الرياضيّات، وليست لغة من بين اللغات التي تدرّس. وهي تجمع في الوقت نفسه تحدّيّات كبرى ذات بعد سياسي وبعد تربوي، وذات بعد بيداغوجي.
كيف يمكن أن نجعل من مادة خصوصيَّة لها طابع متميّز عن بقيَّة المواد أن يقع النظر إليها مجددا؟ التجديد الذي يقع الآن بالنسبة للسنتين الفارطتين على الأقل أن يقع التركيز على كيف يمكن أن ترتبط مادة التربية الإسلاميَّة ببقيَّة المواد؟ أو ما يطلق عليه الإصلاح المنهاجي.
والإصلاح المنهاجي يتعامل مع هذه المادة ليس فقط كمادة مستقلَّة، وإنّما كمادة ترتبط مع بقيَّة المواد الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، ومن هنا تأتي الإشكاليَّة الكبرى أو المأزق الكبير لمادّة التربية الإسلاميَّة، كما أشار إليه الدكتور عبد الجبار الرفاعي، هو هل أنّ هذه المادة ستعيد تدريس الإسلام التاريخي أم إسلام الرسالة، هل إنها ستعيد تدريس العالم القديم أم ستعيد تدريس العالم الجديد؟ وهي الحيرة نفسها من جانب النظرة الإبتسمولوجيَّة؛ لأنّ مادة التربية الإسلاميَّة لا تنفصل عن السياقات الثقافيَّة وهو الشيء نفسه الذي أشار إليه الدكتور وجيه قانصو عندما تحدّث عن الخيارات المعرفيَّة؛ الخيارات المعرفيَّة للمدرسة والخيارات المعرفيَّة لمادة التربية الإسلاميَّة لا تنفصل عن هذا المناخ الثقافي والمناخ المعرفي.
الآن نحن في انسداد تاريخي كبير من الناحية المعرفيَّة، بمعنى أنه حتى الآن لم يتمّ إدخال نوع من التنوير داخل الثقافة الإسلاميَّة، وبالتالي داخل القراءة التجديديَّة للنصّ الديني، ثمّ في نهاية الأمر ماذا سندرِّس لطلبتنا، ماذا سندرِّس التلاميذ في المعاهد الابتدائيَّة والمعاهد الإعداديَّة والمعاهد الثانويَّة، وصولا إلى التعليم العالي؟
المادة التي ستدرّس الآن لم يقع الحسم فيها، وهناك جدل كبير في المادّة العلميَّة والبرامج والمناهج التي يتمّ تقديمها. هنا تطرح أمامنا إشكاليَّات عديدة وأسئلة تتعلّق أساسا بهل يمكن حذف مادة التربية الإسلاميَّة، لأنه هناك من طالب بحذفها. في نهاية الأمر يقول لك: نحن ننتمي إلى الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، ولكن لماذا لا ندرِّس بقيَّة الأديان؟ ومن هنا تطرح فكرة دراسة علم الأديان أو سوسيولوجيا الأديان والانتقال من نصوص عامَّة إلى تعويد التلميذ على مجموعة من القيم، يعني عوضا عن الأسلوب التلقيني حيث يعلّم الطالب على ترديد أو إعادة إنتاج ما تمّ دراسته إلى أن تصبح عمليَّة نقديَّة، وهذا صعب جدا؛ لأنّ المدرسة الحاليَّة في مختلف بلداننا العربيَّة هي ذات منحى تقليدي.
ما زلنا نعتمد على تصنيف المشهد العام للمدرسة إلى مواد منفصلة ومواد منعزلة، في حين أن المدرسة التي ينتظر أن تبنى في الأعوام القادمة في القرن الواحد والعشرين في أن تكون مدرسة تعتمد لا على المعرفة، بل تعتمد على المهارات.
ما هي المهارات التي يمكن إفرازها، وما هي المهارات التي يمكن بناؤها داخل مادة التربية الإسلاميَّة هي أيضا الرهان الأساسي الذي ينبغي التفكير فيه خلال المرحلة القادمة استفادة من التحديثات التكنولوجيَّة، والاستفادة من الشبكات الاجتماعيَّة، والاستفادة من البرمجيّات الجديدة، أي أن تصبح مادة التربية الإسلاميَّة أو مادة التفكير الإسلامي ليست بالأسلوب التقليدي القديم وإنما بأسلوبٍ جديد، وهذا باعتقادي يجعل مادة التربية الإسلاميَّة تتحوّل دون أن تتغيَّر، والمطلوب أن يحدث تغيرها وليس تحوّلها.
التحوّل في الأشكال، التحوّل في المظاهر. التحوّل في الجوانب الشكليَّة ممكن جدا، لكن إحداث تغيير أساسي أعتقد أنه هو ما يقدّم لنا مخرجات في مادة التربية الإسلاميَّة وفي بقيَّة المواد؛ أن تتميَّز بحضور المواطنة واستحضارها، واستحضار قيمة الاستقلاليَّة الشخصيَّة، استحضار قيمة الفرديَّة، استحضار قيمة الحرّيَّة، قيمة الكرامة، هذه القيم التي نطمح إلى تنفيذها في سلوكيّات، أعتقد هي التحدّيّات الكبيرة.
الإشكال الأخير، هو أنَّ المساجد عامرة في صلاة الجمعة وبقيَّة الصلوات، يعني هناك التزام بالجانب الطقوسي، ولكن لا نجد انعكاسا أو نتيجة لهذا الالتزام الطقوسي على مستوى السلوكيّات العامَّة، الانتظام الاجتماعي وأكثر من ذلك هو أنّ السلوك يغيب تماما عندما ندخل إلى المجال السياسي؛ يعني المجال التربوي فيه مفاسد كثيرة، المجال الاجتماعي فيه مفاسد وعنف واعتداءات. أيضا المجال السياسي لا نجد فيه الشفافيَّة ولا نجد فيه احترام الرأي المختلف، ولا نجد فيه احترام التعدّديَّة.
كل هذه العوائق الأخلاقيَّة تتطلَّب فعلا أن تكون التربية الإسلاميَّة ليست مجرَّد مادة مدرسيَّة، وإنما الارتقاء بهذه المادة إلى أن تتحوّل إلى خلق ديناميكيَّة كاملة، يعني أن تتحوّل المدرسة في أي منطقة من المناطق العربيَّة إلى فضاء للجدل، فضاء للنقاش وليس فقط فضاء لإنتاج التلميذ المتمثّل للأوامر والتلميذ الطوعي.
أن بداية زرع البذور الأساسيَّة للتمرَّد على كل ما هو تقليدي، على كل ما هو فيه جانب تجريدي. هو جعل التربية تفاعليَّة وتشاركيَّة بين الطلبة وبين المدرّسين، وهذا يعتبر بطبيعة الحال منحى حركي فيه قيم أساسيَّة داخل مدارسنا، وهذا هو المطلوب كجوهر من جواهر التنوير.
________
* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.