*هاجر القحطاني
ارتأيت الحديث في هذه الأمسية من منظور عملي وأخاطبكم بإحساس جندي عائد من معركة خبِر بنفسه فداحة الأمر مدركاً إلحاح الحاجة الى التدخُّل العاجل. يستند ما أقوله إلى خبرة عمليَّة تمتدّ لأكثر من عقد من الاحتكاك المباشر متعدِّد الأبعاد بقطاع التعليم الرسمي وغير الرسمي في العراق، شمل ذلك لقاءات وحوارات مع المعنيّين بالشأن التربوي والأكاديمي وصنّاع القرار والمنظّمات المحليَّة والدوليَّة ذات الصلة بالقطاع، وقيادة العشرات من ورش التدريب والمؤتمرات الشبابيَّة وإعداد المناهج التدريبيَّة.
*مشهد محبط
ثمَّة حقيقة فاقعة لا تخفى لابد من اعتمادها مدخلا أول لحديثنا وهي أنَّ العراق بلد شبابي بامتياز، حيث أكثر من نصف سكانه هم تحت 21 عاما أي في عمر الفتوَّة والشباب المبكِّر، ما يضعه وسط دول افريقيَّة شديدة الفقر. لا يعكس ذلك مؤشِّرات تنمية متدنيَّة فحسب بل يضاعف المسؤوليَّة على المجتمع والدولة في توفير بيئة راعية لهذا الزخم الهائل المتزايد من الفتية والفتيات. ومع الاضطراب السياسي والفشل الاقتصادي والبطالة وحالة التعليم السيِّئة في البلد فإنَّ هذه الحقيقة تعني أنَّ في العراق ما يكفي من الوقود الخام الجاهز للانفجار عنفاً ومخدّرات وتطرّفاً وجريمة.
وليس سرًّا أنَّ نظام التعليم – بجناحيه الأساسي والعالي- يواصل في العراق تراجعه رغم ما يصرف عليه من أموال وجهود (كثير منها مخلص) من المعنيّين سواء كانوا تربويّين أو أكاديميّين أو صنَّاع قرار: الأميَّة في أعلى مستوياتها مقارنة بالدول المحيطة والعالم ومقارنة حتى بوضعها في العراق خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، الجامعات العراقيَّة خارج التصنيف العالمي أو في ذيله، التسرّب من المدارس ظاهرة بارزة، والتعليم التجاري منتشر كالفطريات دون ضوابط فاعلة.
وبينما يضطرد التقدّم في فلسفة التعليم وطرقه واستراتيجياته في المنطقة والعالم تتعثَّر مسيرته في العراق وتتَّسع الفجوة باستمرار بين ما يتوفَّر لأجيال البلد الصاعدة وبين ما يحصل عليه نظراؤهم في الدول الأخرى، ناهيك عن معاناة الملايين من المتعلّمين والمعلّمين من مدارس بلا بنى تحتيَّة وتكدّس في الصفوف وترهّل في الموارد البشريَّة غير المؤهَّلة بما يكفي.
غير أن الأمر لم يكن دوما هكذا، فقد استمرّ منحنى التعليم العام في العراق بالتصاعد بدءا من تأسيسه في عام 1921، وصولا إلى الذروة بعد الطفرة النفطيَّة في السبعينات حتى الثمانينات، عندما قارب إنفاق الدولة على التعليم 20% من ميزانينتها، ما جعل العراق رائداَ في دعم التعليم في العالم العربي ووضعه في مصاف دول أوروبيَّة متقدِّمة . لكن المنحنى سرعان ما بدأ بالنزول بعد تكبّد البلاد تكاليف إنسانيَّة واقتصاديَّة باهظة بسبب الحرب العراقيَّة -الإيرانيَّة ثم حرب الكويت، وجاء الحصار الاقتصادي في التسعينات ليوجّه ضربة قاسية للتعليم قبل أن ينهار بالكامل مع الاحتلال الأمريكي في 2003.***
المفارقة أنّ العراق يزخر بالخبرات الوطنيَّة الأكاديميَّة والتقنيَّة المتقدِّمة داخله وخارجه، لكن جهود الإصلاح تبدو متناثرة لا يجمعها رابط، ولا تشكّل تراكماً ملموساً كمن يحفر في بئر لا قاع له، وهو ما انعكس على العديد من المعنيين الذين التقيتهم وعملت معهم خلال السنوات العشر الأخيرة شعوراً باليأس والعجز وقلّة الحيلة والإحباط.
لهذا كله تصبح أزمة التربية والتعليم قضيَّة سياديَّة ملحَّة تخصّ الأمن الوطني ومستقبل البلد ومصير أجياله، ما يعني أننا يجب أن نتوقَّف فوراً عن اعتماد واتباع عقليَّة التدرّج والتراكم البطيء في إحداث الإصلاحات اللازمة، واستبدالها بعقليَّة التدخّل العاجل لوقف التدهور وإجراء إصلاحات جذريَّة مستدامة، حتى إن عنى ذلك العودة خطوتين إلى الوراء للتقدّم أربع خطوات إلى الأمام.
تعيننا في ذلك الاكتشافات الجديدة في علوم مثل النيرولوجي والسايكولوجي، التي تلعب دورا محوريا في تطوير استراتيجيات التعلّم والتعليم، والقفزات الهائلة في الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، أعادت هذه الاكتشافات والقفزات تعريف المدرسة والتعليم الصفي بشكل جوهري ما اضطر مؤسَّسات تعليميَّة عالميَّة عريقة إلى النزول من أبراجها العاجيَّة والتواضع أمام عصر انتشار المعلومة وسهولة الوصول إليها عبر إحداث تحوّلات جذريَّة في سياساتها وبناها الإداريَّة وتوجّهاتها المعرفيَّة لكنها يمكن أن توفّر فرصا حقيقيَّة لقطاع التعليم في العراق لاختصار الوقت وجسر الهوّة مع العالم. خاصَّة أنَّ أجيالا من ناشئته مرَّت وتمرّ بظروف استثنائيَّة أثّرت بشكل عميق على التكوين النفسي وبنية الدماغ لديهم.
*مقاربة التدخّل
هنالك الآلاف من الدراسات والأبحاث الرصينة لباحثين عراقيين جادّين وما لا يحصى من الدراسات والوثائق الدوليَّة التي تعالج أزمات التعليم البنيويَّة والفنيَّة والمعرفيَّة، لذلك فإنَّ ما ينقصنا بالدرجة الأولى ليس المزيد من هذه الدراسات بل رؤية جامعة تعكس فلسفة واضحة ذات صلة باحتياجات وتحدّيات البلد الفعليَّة وثقافته وهويّته الحضاريَّة، وتأطيراَ معرفياً كلياً يحوّل مخرجات التربية والتعليم جوهرياً باتّجاه تخريج مواطنين صالحين منتجين يجيدون صنع الحلول المجتمعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة لا الثرثرة حول المشاكل. وما ينقصنا هو استراتيجيات تدخّل فاعلة ناجعة ومستدامة تستثمر في قطاع التعليم بصفته منظومة عابرة للحكم والسياسة ومتجذّرة في المجتمع وثقافته ونسيجه ومؤسّساته الحيويَّة. والمقصود بقطاع التعليم هنا هو النقابات المعنيَّة والخبراء والمنظّمات والمؤسّسات المدنيَّة والأهليَّة المعنيَّة بالتربيَّة والتعليم ومديريات وأقسام وموظّفو القطاع العام في الوزارات المعنيَّة من غير التعيينات السياسيَّة.
أدناه أربعة مداخل أساسيَّة لضمان نجاح أي تدخل جاد تقوده الدولة في إصلاح منظومة التربية والتعليم في العراق، شرط أن تبادر المؤسَّسات المعنيَّة في المجتمع إلى الضغط على الدولة لتحقيقها؛ لأن مسؤوليَّة التربية والتعليم مشتركة وتضامنيَّة بين الدولة والمجتمع.
1. لا يجوز أن تبقى منظومة التربية والتعليم رهنا بتقلّبات الساسة ومزاج الوزراء، وبما أنّ الوضع السياسي والاقتصادي ما زال مضطربا وغير مستقرّ في العراق وقد يمرّ وقت قبل حدوث أي استقرار نسبي، لذلك لابد من سنّ تشريعات ووضع سياسات تحمي التربية والتعليم من ارتدادات الاضطراب السياسي ومن الاتّفاقات السياسيَّة التي تعكس ضعف أو انهيار العقد المجتمعي مثل “المحاصصة السياسيَّة”، كما تفعل أي دولة راشدة ومجتمع ناضج في ظروف الحرب والاضطراب.
2.حصر وترسيخ غايات عمليَّة التربية والتعليم في غايتين أساسيتين لهما الأولويَّة، بهما تقيس وحولهما تضع الاستراتيجيات وتنظِّم العمليات والموارد: وهما التأهيل لسوق العمل والتربية على قيم المواطنة الصالحة. وهذا يعني أولاً أن على قطاع التعليم أن يواصل ملاحقة التطوّرات والتحوّلات في سوق العمل المحليَّة والدوليَّة واستهداف الراهن منها والاستثمار في الاستراتيجي. وذلك يشمل المهارات المؤهّلة لأداء الأعمال والوظائف في سوق العمل الراهن، المهارات والقدرات المؤهّلة لريادة الأعمال وإنشاء مشاريع مبتكرة، القدرات العلميَّة والتقنيَّة والفنيَّة، وبلا شكّ مهارات العمل المتوقّعة للقرن 21 (وثائق منظّمة العمل الدوليَّة)، ويعني ثانيا أن يقوم قطاع التربية والتعليم برصد الصيرورة الثقافيَّة والأخلاقيَّة والحضاريَّة للمجتمع والدولة العراقيَّة وتقديم التربية المدنيَّة والأخلاقيَّة والثقافيَّة اللازمة لمواكبة هذه الصيرورة وتنشئة أجيال قادرة على بناء السلم المجتمعي والنهضة.
3.التركيز على التدريب المهني والتحوّل التدريجي من نظام تعليمي يعتمد الشهادات الجامعيَّة معيارا أول للتأهيل إلى سوق العمل إلى نظام يعتمد الشهادات المهنيَّة دقيقة التخصّص بمقاييس عالميَّة. انسجاماً مع التحوّل من اقتصاد ريعي يعتمد على واردات النفط فقط إلى اقتصاد منتج تزدهر فيه ريادة الأعمال وينافس فيه العامل العراقي في السوق الإقليميَّة والعالميَّة خاصَّة مع انتشار الأعمال والوظائف على الإنترنت التي لا تتطلَّب السفر أو الانتقال من المكان، الملفت أنّ التعليم المهني تضاعف ثلاث مرات من حيث الحجم وتطوّر من حيث الجودة في ثمانينات القرن الماضي، وقد يكون هذا الاهتمام قد حصل، للأسف، لتشغيل وإدامة ماكنة الحرب العملاقة التي بناها النظام آنذاك.
4.الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، ليس فحسب كمهارة لا غنى عنها لوظائف المستقبل القريب، بل أيضا لتوفير حلول ذكيَّة لمشاكل وتحدّيات التعليم الإجرائيَّة مثل الوصول السريع إلى جميع فئات المجتمع، ضبط الجودة، مواءمة المدخلات والمخرجات، رعاية الفروق الفرديَّة والشرائحيَّة، تطوير الإشراف ومحو الأميَّة، ناهيك عن مشاكل وتحدّيات القطاعات الأخرى.
المقترحات أعلاه هي خلاصة عشرات من الحوارات المعمَّقة مع معنيين بشأن التعليم والتربية في العراق أجريتها خلال الأشهر الماضية، وهي بطبيعة الحال رهن لإرادة سياسيَّة محكمة وواعية ومجتمع مدني يعي أولوياته.
______
* كلمة قدّمت في ندوة تفاعليَّة عقدتها مؤسَّسة الحوار الإنساني في لندن بتاريخ 11/11/ 2020.