*عبدالله فرج الله
مواكب المتعلِّمين عبر المسيرة البشريَّة هائلة وضخمة، يستحيل الإلمام بأطرافها، والوصول إلى السائرين في دروبها، وإحصاء أعداد الملتحقين بها، ومعرفة أسمائهم، فضلاً عن سيرهم ومنجزاتهم، فجموعهم غفيرة كبيرة وحشودهم جرَّارة.
غير أننا نستطيع أن نحصي عدداً قليلاً جداً من هؤلاء، وبنسبة لا تكاد تذكر، من هذه الجموع الجرَّارة من المتعلِّمين، والوقوف على تفاصيل مسيرتهم الحياتيَّة، وتعداد منجزاتهم العلميَّة، ومعرفة سيرهم العمليَّة، فبماذا تميَّز هذا العدد القليل، والقليل جداً، من هذا الكمّ الهائل، والسيل الهادر، من جموع السائرين في دروب التعليم.
نعم، كيف استطاع هذا العدد القليل نسبيّا، إذا ما قيس إلى هذا العدد الضخم جدّا، من هذه الجموع، أن يترك بصمة واضحة، وأثراً كبيراً في المسيرة البشريَّة، تتناقله الأجيال، جيلاً يتلوه جيل، بتقديرٍ واحترامٍ كبيرين، اعترافاً بفضل هؤلاء الأعلام في منجزات الحضارة الحديثة وتطوّراتها، والتي لا تقوى البشريَّة على تجاهله أو نسيانه.
إنَّهم قلَّة نادرة أولئك الذين لمعت أسماؤهم، كنجومٍ في سماء البشريَّة، يهتدي بها الناس في مسيرتهم الحياتيَّة، ويبنون على ما أسَّس هؤلاء وقدَّموه من فكر وعلم.
برزت هذه القلَّة النادرة، وكانت بهذا الحضور اللافت والقوي في المسيرة البشريَّة، كعلماء خدموا البشريَّة في زمانهم، وأسَّسوا لنهضةٍ كبيرة للاحقين بهم، وقبل ذلك برزوا كمتعلِّمين نابهين، سيطر عليهم همّ عام، تمحور حول بذل جهودهم في خدمة البشريَّة التي ينتمون إليها.
بمعنى آخر لم يكونوا أسرى مستقبلهم الخاص، المتمثِّل في تأمين حياتهم المعيشيَّة والمعاشيَّة، من وظيفة وراتب وسيَّارة وبيت وزوجة وأولاد، ومكانة اجتماعيَّة.
الذين عاشوا ضمن هذه الحدود حياتهم قصيرة جداً، لأن حدود ما عاشوا من أجله بالأصل هي قصيرة جداً، وهذا شأن كل الذين يعيشون من أجل نفوسهم، ويتعبون في سبيل غاياتهم الخاصَّة، ويجتهدون من أجل أهدافهم الشخصيَّة، فإنَّهم وإن حقَّقوها ستنتهي بانتهائهم، وسترحل برحيلهم.
فإنَّ ثراء البعض، وتضخُّم أرصدته في البنوك، وكثرة قصوره، وفخامة سياراته، وتعدُّد ممتلكاته لا تفيد البشريَّة بشيء، إلا إذا كان ذا همّ عام، ينفق شيئاً من ثروته هذه على ما ينفع البشريَّة، ويخدمها، في مسيرتها التقدّميَّة والحضاريَّة، وكثيرون من ذوي الثروات سيطر عليهم الجشع والطمع، فكانوا بثرواتهم هذه وبالاً على الإنسانيَّة كلها، حين سيطر عليهم الهمّ الخاص، فلم يبالوا في تضخيم ثرواتهم بسلوك كل السبل المنحرفة، كالتجارة بالمخدّرات والجنس واللهو والفساد لا بل سلك بعضهم سبل الرقّ والاستعباد، إمعاناً في امتهان البشريَّة.
ومن التزم من ذوي الثراء السبل الصحيحة والجائزة شرعاً وقانوناً، غير أنَّه أمسك ثروته هذه، فجعل من العلم تجارة بتأسيس المدارس والجامعات والمعاهد والمراكز، التي كان دخولها يشكِّل عبئاً ثقيلاً على الكثيرين من أبناء البشريَّة.
وهذه ارتكاسة للبشريَّة تؤكِّد أنَّ المحطَّات التعليميَّة والتربويَّة الأولى التي مرَّت بها هذه الجموع، فشلت في انتشالهم من وهدة الأنانيَّة، وبحور الذاتيَّة، لا بل ربما عمَّقت فيهم هذه النزعة الفرديَّة الأنانيَّة.
******
ربط التعليم بالسوق ومتطلّباته وليس بالمتعلِّم ورغباته، أو الإنسانيَّة واحتياجاتها، مظهر من مظاهر هذا التوجّه نحو حمل الهمّ الخاصّ، وتعميقه في الذات والتوجّه، ويؤكِّد أنَّ سبب التعلُّم عند هؤلاء، وفي هذه المؤسَّسات، وسياسات الدول، هو سبب معيشي بحت، لا علاقة له بالهمّ العام، والتوجّه العام، المهم أن تتعلَّم ما يوفِّر لك الفرصة المناسبة، في وظيفةٍ مناسبة، تدرُّ عليك دخلاً مناسباً، تؤمِّن لك حياة مناسبة.
ولهذا للأسف كانت مسيرة التعليم في دولنا بائسة يائسة، غارقة في الذاتيَّة والفرديَّة، فغابت عن المجتمعات فاعليتها، وركدت مياهها، وبالتالي فسدت بضاعتها، لأن كل راكد فاسد لا محالة.
*****
ومن لم يربط تعليمه بالسوق، ربطه بالمجتمع القائم على المباهاة والمفاخرة الفارغة، فهذا يريد لابنه دارسة الطب، وذاك الهندسة، وهكذا، ليس لأنَّ ابنه يرغب بالطب أو الهندسة، أو أنه ذو توجُّهات وميول طبيَّة أو هندسيَّة، بل لأنّ ابن عمّه أو عمّته أو خاله أو خالته طبيب أو مهندس، هذه هي باختصار حكاية التعليم في ديارنا.
أو ذاك يدرس هذا التخصُّص رغماً عنه، لأنّ معدّله لم يؤهله لغيره، فقبل به مضطراً، فالمهمّ عنده في النهاية الشهادة والوظيفة.
فكم هو عدد الذين تخرَّجوا من كليّات الطبّ والهندسة، يحملون لقب طبيب ومهندس؟! لكن كم عدد الذين سمعنا بأسمائهم؟ أو الذين برزوا في تخصّصاتهم؟ أو الذين قدّموا جديداً للبشريَّة؟!
وتستمر الحكاية، حكاية التعليم الذي يفرضه علينا مرَّة منطق المباهاة والمفاخرة، ومرَّة متطلّبات السوق والوظيفة، ومرَّة المعدَّل التراكمي وتحصيل الثانويَّة العامَّة.
فكانت الحصيلة جيوشاً جرّارة من حملة الشهادات، المنتظرين دورهم في قوائم التوظيف، والباحثين عن وظيفة هنا أو هناك، ومن المؤلم في هذا المشهد أنَّ أغلبيَّة هذه الجيوش الجرَّارة من حملة الشهادات لا تُحسِن كتابة سيرة ذاتيَّة فضلاً عن تكوينها، في مرحلة تعلّمهم، تغري أرباب المؤسّسات والعمل باختيارهم، وكان الأصل أن تتسابق هذه المؤسَّسات على اجتذابهم، لكنَّه للأسف نتاج بائس.
*****
بعد هذا، نسأل، حتى نضع النقاط على حروفها، ما هي الأحلام والآمال والتطلُّعات التي يحملها خريجو المدارس، وهم يودِّعون مدارسهم، ويقفون على عتبات الجامعات، التي سيمكثون فيها على أقل تقدير أربع سنوات، يتلقُّون فيها تخصّصاتهم، التي تؤهّلهم لاحتلال مواقع البذل والعطاء في مجتمعاتهم، فما هي الأحلام التي يغادر بها المتعلِّمون كل مرحلة من مراحل حياتهم التعليميَّة؟ ويدخلون بها مرحلة تعليميَّة جديدة؟ ويأتي السؤال الأهمّ عن الأحلام التي يحملها الواقفون على عتبات الخروج من رحم المحاضن التعليميَّة؟
الأحلام هي التي تصنع المستقبل، وقوم لا أحلام لهم لا مستقبل لهم، وأي مؤسَّسة بغض النظر عن طبيعتها وتخصّصها لا تملك أحلاماً، فإنّها مرشحة للاندثار.
في النظر في واقع المتعلِّمين في جميع مراحلهم التعليميَّة، يتفاجأ أنّ كل أحلامهم تتمحور حول ذواتهم؟ وطموحاتهم الشخصيَّة؟ وحياتهم الخاصَّة؟ ومشاريعهم الفرديَّة؟ بمعنى آخر أن هذه المحاضن التعليميَّة للأسف فشلت في زعزعة السيطرة الذاتيَّة ونزعة الأنانيَّة على المتعلِّمين، إن لم تعزّزها بالاتّجاه ذاته، فكانت السيطرة التامَّة على المؤسَّسة التعليميَّة والمتعلِّمين فيها للهمّ الوظيفي الخاص، سيطرة المصلحة المحكومة بالفرديَّة والأنانيَّة، ممَّا أدَّى بشكل عام إلى غياب روح الجماعة، والتراخي عن حمل الهمّ العام، والتفكير بالمصلحة البشريَّة، وسعادة الإنسانيَّة.
*****
ويبقى من المقال آخره، ما لم تتحوَّل مؤسَّساتنا التعليميَّة، بمناهجها ومعلّميها وشعاراتها إلى الفضاء الرسالي، الذي تتضاءل فيه الذات، وينكمش فيها سلطان الأنانيَّة، وتنزوي فيها عقدة الفرديَّة، لتعلو فيها راية البعد الرسالي الإنساني، خفاقة في هذه المؤسسات، وقبلها في قلوب وعقول القوم، سنبقى نراوح في مكاننا الراكد، من سيِّء إلى الأسوأ.