خصوصيَّة القرآن في برامج التوعية والتربية والتنوير

*ليث كبة

رصة طيّبة أن ألتقي هذه النخبة والفاعلين ورؤساء حقيقيّين في الميدان، واسمحوا لي مرَّة أخرى لضيق الوقت أن أبدأ بأسلوبٍ وعرضٍ مختلف، وأبدِّل عدسة أذهانكم إلى حديثٍ من نوعٍ آخر.

سأحرص على أن يكون حديثي توجيهيّا ومعنيّا بالواقع الذي نعيشه. أنا أحدّثكم كوني قادم من العراق وقد كنت هناك آخر عامين. كنت أستمع إلى كل ما يدور من حديث هنا وأنا أفكّر بكيفيَّة ربطه بالواقع الموجود في داخل العراق، بالأحزاب الدينيَّة الموجودة هناك، برجال الدين، بالمخابر، أين نعيش مع كل هذا الواقع.

المسطرة التي نقيس بها فاعليَّة هذا الاجتماع بأن نحلّ أسئلة فكريَّة ونعود إلى بيوتنا ونحن نشعر بالراحة لأنّنا قمنا بحلّ السؤال الفكري، أن ننجز أشياء عمليَّة تساهم في تغيير هذا الواقع. إذا لم نساهم نحن بإحداث هذا التغيير من سيفعل؟ وإذا لم هذا الآن فمتى؟

الحقيقة، في هذه اللحظة، أقولها وأنا أستحضر أمامي مائة مليون شخص في المنطقة العربيَّة وهي منطقة شديدة الاضطراب؛ مدن مدمّرة، ملايين النازحين، وجيل ينشأ في وضع صعب جدا، وفي جو هذا الواقع المضطرب، هناك موضوع اسمه الدين، إساءة استخدام الدين وإضافته كأداة تجميليَّة خلق إشكاليّات، وطغيان باسم الدين.. إلخ.

في وسط هذا المشهد الضاغط جدا في منطقتنا، هناك مشهد عالمي مضطرب أيضا لكنّه اضطراب من نوع آخر، تقنيات التعليم تزداد، إدخال الآلات يزداد، العالم متسارع بمسيرته باتجاهٍ آخر، ونحن نغرق هنا في حالةٍ من الاضطراب، لذا أقول إنه تعوّل على الرابطة وعلى هذا الاجتماع تطلّعات وآمال بأن نساهم حقيقة بإضافة بشكلٍ فعليّ سواء نشاط أو أدبيّات أو رسائل تخرج من هذا الاجتماع، وألا نكتفي فقط بحوارات أقرب ما تكون إلى الأكاديميَّة أو التجريد عن موضوع الدين. 

موضوع الدين كما ذكرت قبل قليل حيوي، وحيويّته بدأت قبل 40 سنة منذُ أن صعدت إيران على مسرح الإسلام السياسي، صعد وتصدّر واستلم موضوع الحكم، ومنذ ذلك الحين ونحن نعاني ثلاثة إشكاليّات كبرى ولدت وارتبطت باسم الدين هي؛ موضوع الدين في الحكم وكل الإشكاليّات السياسيَّة التي رافقت هذا الباب، وموضع إحياء الإرث الديني غير القرآن، وأنا منهجيّا أفصل بين الإرث الديني للمسلمين واجتهاداتهم قبل 1400 سنة وبين الوحي والجدليّة الوحيدة التي تربطنا بالوحي هي الوعي، والإشكاليَّة الثالثة هي الإسلام في التربية والحياة العامّة. هذه تحدّيات حقيقيّة واقعيَّة غير أكاديميَّة تؤثّر على مائة مليون شخص يعيشون في اضطراب، وعندنا مئات الملايين من المسلمين في العالم تأثّروا بذلك.

سبب الردّة أو الفساد الذي صار باسم الدين، إذ نجد اليوم طغيانا أقرب ما يكون إلى طاغوت، كما كان فرعون يقول (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، إذ يضطهد الناس باسم الدين ويقول (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). نحن اليوم نشهد الفواحش التي ترتكب باسم الدين (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، ونشهد استباحة للمال العام وللأرواح والقتل (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

اليوم تُنسب كل الفواحش إلى الله تعالى وإلى الدين، وفي الواقع سقط الدين بين يدي الشياطين والجهلة، وإذا ما كان هناك عمل حقيقي من قبل فاعلين ومبادرات من هذا النوع لاسترجاع الدين، واسترجاع القوّة الإيجابيَّة للدين. الدين قدر البشريَّة لا يمكن التخلي عنه لأن دماغ الإنسان يسأل دائما عن الغيب ما وراء هذا الكون وما وراء هذه الحياة، وصاحب الأجوبة على تنوعها قدر الإنسان أن يؤمن بالغيب، لكن الميزة الرئيسية لدينا كون أن النص المقدس في الإسلام لم يتعرّض للتلاعب، كما أنّه- القرآن- فيه ميزات عالية لا يتّسع الوقت للحديث عنها بتفصيل، كما أنّه بلساننا لكن علاقتنا به معطّلة لأسباب واهية، بسبب الإرث والجدليّات المسبقة، وبسبب عدم إدراكنا لهذا النص لأنّنا لا نعمل به وفقا لتوجيهاته هو. نحن لم نعمل بالقرآن وفقا لتوجيهات القرآن، بل وفقا لما علمونا الآباء والأمّهات للعمل به.

في الواقع نحن أمام تحدّيات كبيرة، لكن ما أود الحديث عنه باختصار هو دور القرآن بالتوعية والتربية والتنوير، وهذه كلها مفردات مجددة المعاني، أما بخصوص التوعية فسواء شئنا أم أبينا فإن الجيل الذي ينشأ الآن سوف يتلقى وعي القرن الواحد والعشرين، يصبّ في وعيه عبر التلفاز والهاتف وعبر التعليم. نوافذ الوعي هائلة رافعة حتى يدرك أنه اليوم في عالمٍ واحد مترابط ووعي الفرد يرتفع بحكم وجوده في هذا القرن، هو ابن القرن الواحد والعشرين.

هناك جدليَّة ما بين فهم الوعي والوعي، كلما ازداد وعي الإنسان كلما ازداد فهمه للوعي، ولهذا أي منهجيَّة تسعى لأن تقيِّد هذا الوعي بوعي بدائي أصغر من زمننا يضيِّق العدسة لفهم الوعي بدلا من توسيعها لفهم الوعي. الجيل الذي ينشأ في القرن الواحد والعشرين سوف يكون فهمهم للوعي أكثر اتساعا من فهمنا نحن له في القرن العشرين، فالتوجّه العام أنّ الوعي يخلق وعليه فمن الردّة أن نعيد وعينا إلى القرون السابقة، ردّة بالوعي، لهذا هي خلاف أصل الجدليَّة لفهم القرآن والتعامل معه. وكما ذكرت فالقرآن اليوم هو أسير مفاهيم ونظريّات متقيّدة بفهمٍ مسبق ولا تفتح العدسة بأوسع صورة حتى الوعي يهتدي بنور القرآن.

التوعية تحصل اليوم في القرن الواحد والعشرين بحكم زيادة العلوم الطبيعيَّة؛ علوم الفضاء، علوم الإنسان، العلوم والتكنولوجيا والقرآن له دور مميّز بزيادة الوعي الإنساني. الإنسان يدرك أنّ القرآن يخاطب هذا الوعي كلما وصل إلى درجاته العليا. بمعنى أنّ القرآن وعي لأنّ خطابه إنساني وخطابه كوني وخطابه وجودي وليس محليّا ولا محصورا بالمنطقة العربيَّة. والسبب أنّ الوعي متزايد للبشر عبر خبراتهم وحضاراتهم المتلاحقة المتراكمة، والاستثناء هو تقييد الوعي. القرآن قادر على أن يؤطِّر هذا الوعي وأن يواكب الحضارة، هو خطاب للبشريَّة كما هي تتطوّر لا بزمانٍ أو مكان محدّدين.

أمّا على مستوى التربية، فالمؤسّسات لدينا حتّى المؤسّسات التقليديَّة بدأت تنهار أمام الضغط الذي يحصل في البيئة التعليميَّة في كل العالم؛ التعليم الذي يعتمد على الحفظ والتلقين فقط بدأ ينهار، التعليم الذي يعتمد على تحصيل المعلومة فقط بدأ ينهار مقابل القدرة على الاشتقاق والإبداع والمواكبة، بيئة التعليم تتغيَّر، وأدوات التعليم كذلك، بعد أن دخل التعليم الرقمي وصعدت كل هذه التحوّلات في البيئة التعليميَّة. مؤسّساتنا التقليديَّة ما تزال مؤثِّرة، بمعنى أن المدرسة تلعب دورا لكنّه صار أقل، البيت يلعب دورا لكنّه صار أقل، والإعلام كذلك يلعب دورا لكنّه صار أقل بعد أن انفتحت نوافذ جديدة في التربية والتعليم.

القرآن يخاطب طبيعة النفس الإنسانيَّة، صحيح أن حياة الإنسان وطبيعته تتغيَّر وتتعقّد، لكن الاحتياجات النفسيَّة إلى الطمأنينة والإيمان والسكون تبقى واحدة، والقرآن كما ذكرت سابقا يؤطِّر هذه المسألة.

أمّا على مستوى التنوير، فلن يقدر أحد على أن يقود عمليَّة التنوير عند المسلمين بدون الاعتماد على القرآن كما يريد القرآن؛ لأن موضوع معالجة الأدب ومعالجة صورة الحاكم وموضوع معالجة الثقافة المحليَّة والعصبية والانتماء لا يمكن أن يتمّ عند الفرد إلا بوجود مرجعيَّة أعلى ترفعه وتمنحه الجرأة على أن يقول عن والديه لا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، هذا لأنّ القرآن يمنحك الجرأة استمسك بالذي يوحى إليك، استمسك بالذي يوحى إليك. هناك ثلاثون آية تتجاوز إرث الآباء (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) القرآن يشجع على الجرأة وعنده القدرة على أن يتجاوز موضوع الإرث. التنوير لن يحصل إلا بتجاوز ما هو محلّي وما هو تاريخي تجاوز ذلك إلى ما هو أسمى.

إذا اعتمدنا منهجيَّة معاصرة، تعتمد رؤية كونيَّة وتعتمد القرآن سنكون قادرين على إحداث التنوير، أمّا- مع احترامي طبعا لبعض الآراء التي ذكرت- إنّ محاولة التنوير من داخل المنظومات التراثيَّة محاولات بائسة فاشلة، بمعنى أنه ونحن على أبواب ولادة جديدة لهذا يجب أن نمهّد لهذه الولادة الجديدة، ونكتفي بإعطاء مخدرات لشيءٍ هو أصلا يلفظ أنفاسه الأخيرة، أعتقد يجب أن ننتقل في وعينا وتفكيرنا إلى القرن الواحد والعشرين.
________

* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.