يعتبر العلامة الكبير ابن رشد أحد المؤسسين الأوائل لمفهوم التنوير، فقد خاض نقاشاً عميقاً وكبيراً ومريراً، مع عدد من الفلاسفة، خاصة أبو حامد الغزالي، فقد رد عليه بكتاب كامل سماه “تهافت التهافت”، مقابل كتاب “تهافت التهافت” الذي كتب قبل قرن من ذلك. وقد كُتب لهذا النقاش أن يستمر لقرون عديدة. فالغزالي كان يؤمن ان العقيدة الصحيحة تنقذ المؤمن، والتحري العقلاني لا مكان له في الاهوت الاسلامي، بحيث لا تترك فسحة لمفهوم خلافة الانسان، وكل شيء يفسر بتدخل الله عن طريق المعجزة، بينما يناقش ابن رشد ان القرآن يطالب بتعقب التحري والتساؤل العقلاني للنظر والتأمل، كما في آيات 2:29 و 7:14 على اعتبار ان عجائب الخلق تكون واسطة لفهم الخالق. وهو ما يتجلى من حين لآخر في نقاشات الكتّاب والباحثين والمفكرين، الذين يميلون للدفاع عن هذا الطرف أو ذاك، فكان الهرمان الكبيران ابن رشد والغزالي دائمي الحضور في تاريخ الإسلام الممتد.
دافع ابن رشد على ضرورة الإستعانة بتجارب الآخرين والإنفتاح عليهم، مهما كان هذا الآخر، ومهما كانت ملته أو ديانته، فالتجربة والمعرفة الإنسانية تفرض على المسلمين من باب “الحكمة ضالة المؤمن” أن يكونوا على استعداد تام لقبول الجديد والتعامل معه، وقد انتقد في هذا الصدد الذين يدعون إلى التمسك بالتفسيرات القديمة للأمور والقضايا والنصوص، وتأويلات الأولين وفهمهم للنص دون الخروج عليها، معتبرا ذلك أكبر جمود، وشيئاً خطيراً يهدد العقل بالتكلس والركود وعدم الإبداع والإبتكار.
مجّد ابن رشد العقل كثيراً ومنح له مكانة رفيعة في مشروعه التحديثي واعتبره واحداً غير قابل للتجزء نوعاً وعدة، فهو يبني تمجيده للعقل وهو الفقيه المتضلع، من دعوة القرآن المتكررة لإستعمال العقل وتمجيده، فهو يذهب إلى أن العقل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ضد منطق النص القرآني، فالنص القرآني لا يمكن إلا أن يتماهى مع ما يصل إليه العقل من نتائج جديدة وإبداعات حديثة، فكان لابد والحال هذه أن يستعين ابن رشد بالفلسفة اليونانية لما فيها من عقلانية متفردة، من اجل أن يأخذ العقل المسلم ما صلح منها ويعمل بآلياتها العقلانية من اجل التأسيس لتفكير عقلاني إنساني يتجاوز حدود خطابه الزمان والمكان، وهي نفس الرسالة التي جاء القرآن ليؤسس لها، فكر إنساني يمجد العقل ويضعه في مكانة مرموقة، بعيداً عن كل التفسيرات المنغلقة والرجعية للنص، والتي تجعله حبيس زمن معين أو مكان معين، وهذا لا يتفق مع عالمية الإسلام وصلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان.
ابن رشد يعتبر من الأفذاذ الذين جمعوا معارف كثيرة ودراية كبيرة بأمور الفقه والفلسفة والمنطق، جعلته مؤسساً حقيقياً لتنوير العقل العربي، والمتأمل في فكر ابن رشد يرى ان أفكاره تصلح لهذا الزمان، وكأنه بيننا الآن ولم يغادرنا بعد، فهو ما زال مرشداً للفقهاء والمشتغلين على القضايا الفقهية المختلفة، ومناقشاً للفلاسفة والمتكلمين، بل أسس علم كلام عقلي جديد، كما أسس هذا الرجل المتفرد منهجاً عقلياً ينظر في مسائل الدين والفقه والعقل والفلسفة في آن، وهو ما لم يستطع أحد غيره القيام به، مما أدى إلى تأسيس نظر تنويري حقيقي متكامل الأطراف والجوانب، والأساس في كل ذلك دور مركزي للعقل، لأنه المنارة التي تدل الإنسان إلى فعل تنويري حقيقي يجعله يتحول من حالة تبعية عمياء، إلى حالة من العقلانية التي تجمع النظر في النصوص وتأويلها بطرق جديدة.
من هو؟
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، ولد في قرطبة عام 1126م، مارس الفلسفة والطب والفلك وعلم الفيزياء. نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس، حفظ موطأ مالك وديوان المتنبي، درس العقيدة على المذهب الأشعري. دافع عن الفلسفة وناقش افكار علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. تولّى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، تعرض في اواخر حياته لمحنة، حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد ثم أبعده أبو يعقوب يوسف إلى مراكش وتوفي فيها عام1198 م.